رحلتي إلى البندقية: و عرفتُ معنى”Voir Venise et mourir”
بين الماء والضوء، في مدينة لا تشبه سواها، حظيت بتجربة سفر تحوّلت إلى اكتشاف داخلي، حيث تتلاقى الموسيقى والمذاق والجمال في تفاصيل لا تُنسى.
لم تكن الرحلة إلى البندقية مجرّد انتقال من مطار إلى آخر، بل عبورًا من زمن إلى آخر، ومن عالمٍ إلى عالمٍ مغاير.
لم أكن أدرك تمامًا مغزى المقولة الفرنسية “Voir Venise et mourir” — أن ترى البندقية ثم تموت — حتى وطأت قدماي أرض هذه المدينة الأسطورية.
البندقية ليست مدينة، بل قصيدة عتيقة مكتوبة بالماء والضوء والحنين. فيها كل شيء يهمس، كل شيء يتنفس تاريخًا وجمالًا.
منذ اللحظة الأولى، شعرت أنها لا تستقبل زائرها كما تفعل المدن الأخرى، بل تحتضنه برفق: بالماء، بالضوء، وبعطر قديم يتسلل من النوافذ الخشبية المفتوحة.
لم أكن أتذوّق أغنية “الجندول” لعبد الوهاب كما ينبغي… حتى ركبته فعلاً. ذلك القارب الأسود النحيل، يشقّ المياه برفق، وكأنه لا يريد إزعاج الزمن.
ومع كل مجذاف يهمس للماء، تسلّلت الكلمات من ذاكرتي إلى لساني:
“أين من عيني هاتيك المجالِ… يا عروس البحر يا حلم الخيالِ
أين عشاقك سُمّار الليالي… أين من واديك يا مهد الجمالِ
موكب الغيد وعيد الكرنفالِ… وصدى البلبل في عرض القنالِ…”
كنت أرددها، لا كمن يغني، بل كمن يصلّي في محراب الجمال.
الموسيقى تنبعث من شرفات متآكلة الجمال، والمدينة تهمس بكل لغات الحب دون أن تتكلم.
الأغنية هناك لم تكن لحنًا فقط، بل مشهدًا حيًّا، لأحاسيس طازجة، لحظة التقت فيها الموسيقى بالمدينة.
لم أكن أتخيل أن مدينة يمكن أن تُبنى فوق الماء، أن تقف البيوت على سيقان خشبية، وتنعكس الأرواح على سطح القناة.
كل شيء في البندقية يبدو وكأنه معلق بين السماء والماء، بين الواقع والأسطورة.
الشوارع مائية، الأرصفة مبللة بالدهشة، والناس يمشون وكأنهم على أطراف حلم لا يريدون أن يوقظوه.
مشيت في ساحة “سان ماركو” وكأنني في مشهد سينمائي.
الحمام يرفرف بهدوء، الكنيسة تتلألأ بذهبها العتيق، والناس يمشون ببطء، كأنهم يتذوّقون الخطوة قبل أن يخطوها.
وهناك، التقيت بفتيات يرتدين اللباس المحلي المطرّز بالدانتيل، يحملن مظلات مزركشة أصبحت جزءًا من أناقتهن التراثية.
التقطت صورًا معهن، وابتساماتهن كانت جزءًا من المشهد؛ مزيجًا من الفخر والبساطة، ومن الجمال الذي لا يتكلف.
وفي يوم آخر، حين ابتعد بنا القارب قليلًا، ظهرت الجزر كأنها لآلئ متناثرة في بحرٍ هادئ.
حملتنا الأمواج إلى مورانو، جزيرة الزجاج المتوهج، حيث يروض الحرفيون النار ويشكلون منها تحفًا تنبض بالضوء.
ثم كانت بورانو، جزيرة الحرير والدانتيل، حيث رأيت السحر مجسدًا في الألوان: بيوت بواجهات وبألوان زاهية، وردية وزرقاء وصفراء وحمراء، كأنها خرجت من حكاية أطفال.
الطعام؟ لا تسأل. يكفي أن تتذوّق لقمة من “البيتزا” أو “ريزوتو السيبيا”..
أما القهوة في الساحات، فرشفة واحدة منها تكفي لتُقنعك أن الزمن في البندقية يلين… ويتوقف قليلًا، ليسمح لك أن تعيش اللحظة ببُطء نادر. ووسط الأزقة الضيقة، لن تقاوم التوقف أمام محل جيلاتو. المثلجات هناك، أو Gelato كما يسميها الإيطاليون، أشبه بتحفة باردة تذوب في الفم، نكهتها مكثفة كأنها تلخص طعم الصيف والحب والطفولة معًا…
عندما حان وقت الرحيل، لم يكن الوداع سهلاً.
نظرت إلى القنوات المائية للمرة الأخيرة، وفي قلبي شعور غريب: ليس بالحزن، بل بالامتلاء.
كأنني لم أعد كما كنت، وكأنني فهمت أخيرًا معنى تلك المقولة الغريبة:
“Voir Venise et mourir…”
نعم، لأن من يرى البندقية، يعرف أن بعض الجمال لا يُعاد مرتين،
وأن بعض اللحظات… تكفي لتُغني عن عمرٍ كامل.
البندقية ليست مجرد مكان، بل حالة وجدانية؛ لحظة صفاء نادرة؛ لوحة لا تملّ منها العين.
مدينة إذا أحببتها، تعلّق بك، وتظل تهمس لك ليلاً في أحلامك:
“عد إليّ… فهنا فقط يمكن أن ترى، وتحب، وتعيش، وتموت.”