زياد الرحباني… “أنا مش كافر” بل عاشق خذله العالم
كثيرة هي كلمات النعي التي قيلت في رحيل زياد الرحباني. بعضها جاء من القلب، وبعضها من العادة، وبعضها كأنه ينعى لبنان، أو زمنًا آخر مضى ولن يعود. لكنني توقفت، أو بالأحرى استوقفتني أكثر، رسالة واحدة، كتبت لا لتعدد مناقب الراحل، بل لتشهد على كفره النبيل بكل قبح هذا العالم.
كتبها الشيخ حسين أحمد شحادة، فجاءت كأنها نشيد وداع لروح مشاغبة، لضمير موجوع، لحنجرة لم تطاوعها المجاملات:
كلمات لا تشبه قاموس النعي، بل تشبه زياد. ذاك الذي كان “كافرًا” بالرأسمالية المتوحشة، كافرًا بالطائفية، كافرًا بالمنافقين الذين يصطفون في الصفوف الأولى للصلاة ثم يشعلون الحروب. كافرًا، نعم، لكنه آمن بفلسطين، بالعدالة، بالموسيقى كصرخة حرّة، وبأن الفن لا يُؤنّب الضمير، بل يفضحه.
انحاز لحنظلة، وناجي العلي، وسميح القاسم، وعصام العبد الله. أولئك الذين لا يبيعون الكلام في المزادات، بل يزرعونه في الأرض، ليصبح أغنية أو شهقة.
في نهاية الرسالة، كتب شحادة عن ذلك الصوت الذي يتساقط الآن كأوراق الخريف، عن الحروف التي خطّها زياد بنوتة القلب، المجروح والجارح، وكأنها اعتراف أخير:
“أنا الآن في السرير، وسوف أغفو فيغفو السرير، وعندما نغفو، تنام النجوم عندنا.”
ربما لم يكن زياد الرحباني قديسًا. لم يطلبها، ولم يدّعها. لكنه كان صوتًا لا يشبه غيره، ضميرًا مشاكسًا لم يُجامل، ولم يهادن، ولم يركع.
قال في أغنيته الأشهر: “أنا مش كافر… بس الجوع كافر، والذل كافر، والسكوت على الظلم كافر.”
واليوم، بعدما غادر صامتًا، لا يسعنا إلا أن نردّد خلف الشيخ حسين أحمد شحادة:
إلى روح زياد الرحباني… الكافر بكل قبح هذا العالم
إن يكن زياد كافراً
فأنا أول الكافرين.
هو الآتي من رحبة عكار وجنودها المتعبين،
يافعاً كان عندما زار مقام الإمام علي في النجف الأشرف،
مع أمه فيروز التي غنّت لبغداد والشعراء والصور.
هرب إلى جبل عامل من حروب الخنادق والفنادق والطوائف،
وترك على صخور قلعة الشقيف معزوفاته المنفردة.
منذ بواكيره انحاز زياد إلى حنظلة مع ناجي العلي،
وإلى سطر النمل مع عصام العبد الله،
ومشى منتصب القامة مع سميح القاسم.
كفر…
كفر بالرأسمالية المتوحشة،
كفر بأمركة العولمة،
كفر بقطاع الطريق إلى فلسطين،
كفر بالأشجار العارية والأديان السوداء،
كفر بلصوص الهيكل،
وتمرّد على الأجراس التي لا تصلي ولا تقرع.
وبعد أن اجتمعت ضده كل الأشياء الكافرة،
وسرقت من ضي عينيه لمعة الحب والشغف،
كفر بجميع الكائنات التي تركت غزة لمحاقها*،
وعاد إلى نصه القديم،
وبكى طويلاً فوق الحروف التي كتبها بنوتة القلب، جارحة ومجروحة،
إلى صديق له في السماء:
لماذا أخبرتموني أنه بعيد؟
فهل يصل صوتي إليه بعد كل هذه الأوراق المتساقطة؟
أنا الآن في السرير،
وسوف أغفو فيغفو السرير،
وعندما نغفو،
تنام النجوم عندنا.
لا نريد أحداً بعد اليوم،
اطردوا الحراس والنواطير،
نحن أصحاب الكروم.
* أقصى درجات الظلمة، العزلة، والانطفاء.