حديث بسمة/ عزيزة حلاق
كيف تحوّلت الحرب إلى محتوى، والمجازر إلى ترند؟
ما الذي يحدث حين تصبح الحرب خبرًا عاديًا، وترتدي المجازر ثوب “المحتوى”؟
هذا النص محاولة لتفكيك تلك الحالة المروعة التي نعيشها:
حيث تُرتكب الجرائم على المباشر، وتُستهلك الكوارث في صمت، دون أن يرفّ جفن العالم.
***
هل تذكرون كيف كنا نقرأ كتب التاريخ، فنرتجف من صور المجازر، ونتساءل ببراءة:
كيف عاش الناس، وسط الحروب والمجاعات والاحتلال والقنابل؟
كم كنا نظن أن الماضي وحده مختص بالكوارث، وأننا أبناء الحاضر الآمن، نعيش زمن التكنولوجيا والمقاهي المتصلة بسحر الـ”ويفي”!
لكننا اليوم تابعنا ونتابع إبادة شعب على الهواء، بين إعلانات العطور ومقاطع الرقص، وقصف متواصل من فيديوهات تقول كل شيء ولا شيء.
نتنقل بين صور القتلى في غزة، وأخبار الكرة، ووصفات الطبخ الشرقية والغربية، بحثًا في اللحظة نفسها عن حفلٍ “بودشار” المقبل أو عرضٍ مغرٍ لعطلة.
كل هذا أصبح عاديًا.
و فيما كانت طبول الحرب العالمية الثالثة تُقرع، وتُطلق التصريحات النارية، ويتبادل الساسة التهديدات. حرب الصواريخ بين إسرائيل وإيران، تدخل ترامب، قصف قطر…
محللون يحللون، ومراقبون يشككون: هل هي حرب حقيقية؟ أم مسرحية جديدة؟
ثم يصدر قرار مفاجئ بوقف إطلاق النار، ويخرج الجميع يصفق لانتصار غامض، لا أحد يعرف كيف تم… ولا أحد يسأل.
تحولت الحرب إلى خبر عابر.
نحن الجيل الذي كان يرتجف من خبر عاجل في نشرة المساء، أو من صورة دامية على الصفحة الأولى، أو شهادة ناجٍ تهز القلوب.
أما اليوم، فالحرب لم تعد حدثًا استثنائيًا، بل أصبحت مادة مرئية قابلة للمشاركة، وتعاليق الساخرة والمشاهدة… وحتى النسيان.
لم نعد نحتاج إلى كتب تاريخ.
أصبحنا نرى الحروب بثًا حيًا:
لحظة بلحظة، قصف المدن، وانهيار المباني، نزيف الأطفال، وصرخات الأمهات…
وكل ذلك على نفس المنصة التي نتابع فيها فيديوهات الرقص، أخبار المشاهير، ونصائح تشبيب البشرة ومحاربة الشيخوخة.
المشهد الحربي لم يعد خارجًا عن السياق.
بل أصبح جزءًا منه، ملفًا إضافيًا على الهاتف وسط زحام المحتوى وسرعة التمرير و الاعجاب والتكبيس..
الحرب دخلت سوق “الترند”،
وأصبحت الكارثة قابلة للتسويق.
كلما كانت الصور أكثر إيلامًا، والموسيقى أكثر حزنًا، زادت نسب المشاهدة.
المأساة تُنتج وتُستهلك،
والقلوب تعلّق عليها كما تُعلق على فيلمٍ وثائقي نعلم مسبقًا أنه سينتهي، فنغادره دون أي التزام.
نحن نعيش لحظة غير مسبوقة في التاريخ:
الحروب تُوثق لحظة بلحظة، أمام أنظار العالم، ومع ذلك لا يتغيّر شيء.
تُقصف المستشفيات والمدارس، تُباد الأسر، وتُرتكب المجازر على مرأى من مليارات المستخدمين… ولا أحد يتحرك.
فهل فقدت الحرب هولها؟ أم فقدنا نحن القدرة على رؤيتها كما هي؟
لم تعد الحرب صدمة أخلاقية.
بل تحوّلت إلى “محتوى” عادي،
ضمن قصف لتيار جارف لا يتوقف من المعلومات.
و إذا كانت الحرب لا تزال مأساة للضحايا،
فهي بالنسبة للجمهور مجرد “خبر آخر”، “هاشتاغ جديد”، “لحظة تعاطف مؤقتة”.
إن أخطر ما يمكن أن نصل إليه هو أن نفقد الحس بالكارثة.
أن نصبح شهودًا صامتين، بلا غضب، بلا مقاومة، بلا ذاكرة.
ما الذي جرى؟
هل تبلّدت مشاعرنا حقًا؟
علم النفس يُفسر هذه الظاهرة بما يُعرف بـ”الإرهاق العاطفي” أو “اللامبالاة المتعاطفة” (Compassion Fatigue)، حيث يُصاب الإنسان بحالة من التخدر نتيجة كثافة التعرض للمآسي.
تكرار الصور المؤلمة، دون حلول أو سياق، يُدخل الناس في حالة من الانفصال النفسي لحماية الذات من الانهيار.
يُسمى هذا أيضًا بـ”تآكل التعاطف” أو “الصدمة النيابية”، وتظهر من خلال فقدان القدرة على الإحساس، إلى جانب العجز، والتشاؤم، والانفصال عن المحيط.
لكن هذا التفسير لا يُعفي من المسؤولية.
أن نعتاد الفواجع لا يعني أن نبرر صمتنا.
إن أخطر ما قد نصل إليه كجماعات بشرية هو ألا نرتجف أمام الألم، وألا نتحرك أمام الظلم، وألا نكترث حين يُسحق الأبرياء.
أسوأ ما يمكن أن يحدث لنا ليس أن نرى الحرب… بل أن نراها ولا نشعر بها.
أن نصبح شهودًا صامتين، بلا ذاكرة بلا احساس.
فحين تموت الصدمة، تموت إنسانيتنا.