حديث بسمة/ عزيزة حلاق
في هذا النصّ المؤلم حدّ الصمت، حاولتُ أن أسترجع فصولًا من الفقد المتتالي الذي هزّ جدار حياتي، وتركها تواجه الحياة بثقلٍ لا يراه أحد.
إنها شهادة ليست فقط عن الرحيل، بل عن تحوّلات الذات حين تتكسّر تحت وطأة الحزن…
في سنة 2005، بدأ كل شيء، وانتهى كل شيء
أبي
كان والدي رجلاً محبًّا للحياة، يتقن فن الدعابة، ويمشي بخفّة لا تُشي بأن شيئًا في داخله كان ينهار بصمت. لم يكن يشكو، ولم يكن يفتح بابًا للشفقة. بدا دومًا أقوى من المرض، وأقوى حتى من الموت.
لكن الحياة لا تُمهل.
في صباح لا أنساه، أخبرني الطبيب، دون تمهيد، دون رتوش أو تزيين للكلام. قالها ببرودٍ موجع:
“والدك مصاب بسرطان المعدة، ويجب أن يدخل غرفة العمليات فورًا.”
نطقها كأنها خبر عابر، بينما شعرت أن الأرض انسحبت من تحت قدمي.
لم أستطع أن أخبره بالحقيقة. قلت له إنها مجرد “قرحة بسيطة”، وسنقيم يومين أو ثلاثة ثم نغادر. دخل المستشفى بمعنويات مرتفعة، متفائلًا، يبتسم حتى وهو على سرير المرض. كان مرحًا، لطيفًا مع كل من زاره، أو ربما تظاهر بذلك كي لا يُثقل قلب أمي وقلوبنا.
سبعة عشر يومًا فقط كانت كافية لكل شيء: عمليتان جراحيتان، آلام لم أفهمها، إشارات لم أستوعبها، وفي النهاية… النهاية.
رحل في 5 ماي 2005، وبدأت بعده رحلة أخرى… أشدّ قسوة.
أمي
كانت زوجة وفيّة، ورفيقة لا تنفصل عنه إلا لتعود إليه. بعد وفاته، انهارت. أصيبت باكتئاب حاد، ولم تعد تجد سببًا للبقاء.
صار سؤالها اليومي حين أعود من عملي:
“هل اشتريتِ لي قبرًا بجانب والدك؟”
كنت أتهرّب من السؤال كما أتهرّب من الحزن. لكن مع إلحاحها، اشتريته. نعم، اشتريته.
فرحت بالقبر، وأصرّت على أن تراه، وكان لها ما أرادت. تابعتها وهي ترشّ بماء الزهر قبر أبي… وقبرها. كأنها كانت تهيّئ لعرسها الأخير، دون أن تعرف تاريخه.
كان ذلك يوم أحد.
وفي الجمعة التالية، كنا نستعدّ أنا وإخوتي لزيارة قبر والدي. طلبت مرافقتنا، وكانت ترتدي الأبيض، ثياب الحداد الذي لم يحن بعد موعد خلعه.
فجأة، سقطت. أزمة قلبية خاطفة لم تمهلها. وفي طرفة عين، رحلت، وأخذت مكانها إلى جواره… كما طلبت، كما أرادت دومًا.
رحلت ببياضها، كأنها عروس ذاهبة إلى عريسها.
ومنذ ذلك اليوم، لم أعد كما كنت.
رحلا بفارق زمني لا يتعدّى شهرين. وكان الفقد المزدوج كفيلاً بأن يعلّمني أن الحزن ليس لحظة… بل حالة.
بعد رحيلهما، لم أعد أرغب في شيء: لا عمل، لا ضحك، لا حياة…
تحوّلت إلى شخص كفر بالفرح، لا يحضر المناسبات، و يواكب الجنائز. وكان حضوري يربك حتى أهل الفقيد أو الفقيدة، لأني كنت أبكي بحرقة، كما لو أن كل ميت يعيدني إلى موتي الأول.
سنة كاملة مشيت بثقل، حتى اتخذت قرارًا حاسمًا: حجزت قبرًا ثالثًا بجانبهما.
فقط حينها، بدأت أستعيد شيئًا من توازني.
شعرت أن لي عنوانًا واضحًا حين يحين دوري….
ذلك “الوعد المؤجّل” هو ما جعلني أقاوم العودة إلى الحياة.
لم أكن وحدي في هذه الرحلة الثقيلة. رافقتني صديقتان وفيّتان، (سميرة وزليخة)، كانتا سندًا حين لم أحتمل حتى نفسي. لم تبتعدا، بل حاولتا، بخفة روحهما ومحبتهما، أن تنتشلاني من عتمتي.
أتذكّر، حين علمت سميرة أنني اشتريت القبر، ضحكت وقالت:
“واو، ها أنت… صرتِ من أصحاب ملاك الأرض !”
لكن القدر كان يخفي فاجعة أخرى.
أخي
أخي بنعيسى، الأستاذ الجامعي في فرنسا، كان سندي المادي والمعنوي، عاتبني بشدة على اقتناء القبر.
قال لي ذات يوم:
“استمتعي بحياتك، أنا هنا… أخوك وأبوك وصديقك… ما هذا الهراء؟ من يشتري قبرًا وهو لا يدري متى سيموت وأين سيموت؟”
ثم… جاء الامتحان الأكبر.
في 2013، مرض أخي. سافرت لرؤيته، فوجدت شخصًا آخر، أكل السرطان جسده.
ارتميت في حضنه، فتمتم:
“شفتي خوك كيف ولى؟”
قضيت الليل إلى جواره. وفي لحظة لن أنساها، قال بصوت واهن:
“بغيت نطلب منك طلب… ما تبكيش، وأنا ما نبكيش… أعطيني قبرك.”
ورحل بعد أسبوعين، وأخذ مكاني بجوارهما.
ومنذها… لم أعد أملك قبرًا، ولن يكون لي مرقد بينهم، بعدما قررت الجماعة توقيف الدفن في المقبرة التي احتضنتهم، لأنها فاضت بموتاها ولم تعد تستوعب المزيد.”
“وما تدري نفسٌ بأي أرض تموت” صدق الله العظيم.