بين باهالغام والبوليساريو: الفتنة!

بقلم:عبدالله منصور

الهجوم الذي شهدته منطقة باهالغام في كشمير أواخر أبريل 2025 ليس مجرد حدث دموي عابر، بل هو نقطة جديدة تُضاف إلى سجل طويل من التوتر المزمن بين الهند وباكستان. منذ لحظة الإعلان عن مقتل أكثر من ستة وعشرين شخصًا، جلّهم من المدنيين، بدأت الاتهامات تتدفق من نيودلهي صوب إسلام أباد، وتحديدًا نحو الجماعات المسلحة التي تنشط انطلاقًا من الأراضي الباكستانية. في قلب هذه الاتهامات تقف أسماء مألوفة في الساحة الجهادية: جيش محمد، عسكر طيبة، وغيرهما من التنظيمات التي تعتبرها الهند، والعديد من الدول الغربية، أدوات غير مباشرة تستخدمها الدولة الباكستانية لتحقيق توازن ردعي أو تكتيكي دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة.

لكن السؤال الأعمق هنا لا يتعلق فقط بمن نفّذ الهجوم أو من خطط له، بل يتعداه إلى البحث في مسؤولية الدول حين تتحرك على أراضيها جماعات مسلحة ذات أجندات منفلتة عن القرار السياسي المركزي، لكنها في الآن ذاته تجد لنفسها فضاءً آمنًا للتحرك والتجنيد والتسليح، وأحيانًا حتى الخطاب العلني. الهند تتهم باكستان بتوفير هذه الحاضنة منذ عقود، وتستند في ذلك إلى تقارير استخباراتية، وشهادات سابقة لأسْرى ومعتقلين، وحتى إلى خلفية العمليات التي غالبًا ما تنطلق من الجانب الباكستاني من كشمير.

في المقابل، تنفي باكستان أي علاقة رسمية بالهجوم، وتقدم روايتها الخاصة بأن هذه الجماعات تتحرك من تلقاء نفسها، وتستغل النزاع التاريخي حول كشمير لتبرير أعمالها. بل تذهب أحيانًا إلى اتهام الهند بفبركة هذه الهجمات لتبرير سياسة أمنية مشددة ضد سكان كشمير المسلمين، أو لافتعال أزمات سياسية تُستثمر داخليًا في فترات حساسة، كفترة ما قبل الانتخابات. هذا الجدل ليس جديدًا، لكنه هذه المرة يأخذ طابعًا أكثر خطورة، لأن التداعيات تجاوزت الإطار المحلي لتصل إلى تبادل عسكري مباشر خلف عشرات القتلى من الجانبين، وهدّد بعودة شبح الحرب بين دولتين تمتلكان السلاح النووي.

في هذا السياق المُلتهب، يبدو من المفيد أن نتأمل، على الطرف الآخر من الخريطة، في كيفية تعامل دول أخرى مع جماعات مسلحة مماثلة تتحرك ضدها انطلاقًا من أراضٍ لدولة جارة. لنأخذ المغرب كمثال حيّ وملموس. فمنذ عقود، والمملكة تواجه جبهة البوليساريو، وهي جماعة انفصالية مسلحة تسعى لاقتطاع جزء من التراب المغربي لإقامة كيان مستقل. هذه الجبهة، بخلاف ما تدعيه من استقلالية، تحظى بدعم سياسي وعسكري ولوجستي علني من الدولة الجزائرية، التي تستضيف قيادتها في تندوف، وتوفر لها غطاءً إعلاميًا وتحركًا دبلوماسيًا في المنتديات الدولية. ومع ذلك، ورغم المناوشات المسلحة المحدودة التي تنفذها البوليساريو، ظلّ المغرب يُمارس سياسة التريّث وضبط النفس، ويمتنع بشكل صارم عن الرد على هذه العمليات باستهداف الأراضي الجزائرية، أو تحميل الدولة الجزائرية رسميًا مسؤولية كل رصاصة تُطلق من تندوف.

الفرق هنا ليس في حجم التحدي، بل في نوعية الرد. ففي حين تندفع الهند إلى التصعيد المباشر، مع ما يحمله ذلك من خطر انفلات السيطرة، اختار المغرب أن يخوض معركته الكبرى في الميدان الدبلوماسي والتنموي. استثمر في الصحراء، طوّر بنيتها التحتية، جلب الاستثمارات، وفرض واقعًا جديدًا يعكس سيادته الفعلية، بدل أن يدخل في صراع مفتوح قد لا تكون كلفته العسكرية والإنسانية مقبولة، ولا حتى مجدية. المغرب، بهذا السلوك، لا يُظهر ضعفًا، بل يقدّم درسًا في كيفية إدارة ملف حساس بتعقّل ومسؤولية، دون الوقوع في فخ الجماعات التي تستدرج الدول إلى دائرة العنف المجاني.

ما يفعله جيش محمد أو الجماعات الجهادية في كشمير هو بالضبط ما تفعله جبهة البوليساريو: افتعال بؤر توتر تُربك العلاقة بين دولتين جارتين، وتُبقي الأمل في حل دائم مُعطّلًا. الفرق أن الهند كثيرًا ما تنساق إلى المربع الذي تختاره لها تلك الجماعات، بينما يُدير المغرب معركته بخطة مدروسة، تعزل الفاعل غير الرسمي، وتُحرج الدولة الداعمة له أمام المجتمع الدولي، دون أن تضع العلاقات الثنائية في فوهة الانفجار.

الهجوم في باهالغام يعيدنا إذن إلى المسألة الجوهرية: حين تكون الدولة عاجزة عن ضبط الجماعات المسلحة داخل حدودها، فإن مسؤوليتها الأخلاقية والسياسية تظل قائمة، حتى وإن ادّعت البراءة. وحين تختار دول أخرى الردّ المتزن والمتدرّج، فإن ذلك لا يعني أنها أضعف أو أقل حزمًا، بل قد يكون العكس تمامًا: الدولة القوية ليست من تردّ على كل استفزاز بالسلاح، بل من تعرف متى تُطلق النار، ومتى تَحسم المعركة دون رصاصة واحدة.

Exit mobile version