أمي و نوستالجيا عيد العرش…

بقلم: مريم أبوري*

مع حلول الثالث من شهر مارس، نسترجع ذكرياتنا مع عيد عرش الملك الحسن الثاني، رحمه الله. هذه الذكريات تبدأ عندي مع حكايات أمي، حفظها الله، عن احتفالات عيد العرش في عهد محمد الخامس، رحمه الله، حيث استطاعت، بحكيها الجميل الذي تسرده بنبرة افتخار واعتزاز، أن تنقل إلينا أجواء تلك الفترة. فقد عاشت السنوات الأخيرة من الاستعمار الفرنسي للمغرب، أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، وشهدت مواقف بطولية لشباب ونساء ورجال “سوسيكا” و”درب مولاي الشريف”.

كانت ولا تزال تحدثنا عن شباب “سوسيكا” الذين كانوا يخفون أرقام المنازل بالصباغة، حتى إذا آوت النساء الفدائيين داخل بيوتهن، لا يتمكن جنود المستعمر من التعرف على البيت الذي دخله الفدائي، نظرًا لتشابه أبواب وبيوت الحي. ورغم صغر سنها آنذاك، حيث لم تكن تتجاوز السادسة، فقد علقت في ذهنها مشاهد الحزن والغضب على وجه أبيها المقاوم عند نفي محمد الخامس سنة 1953. كما تتذكر بفخر كيف أن أهل “سوسيكا”، كغيرهم من المغاربة، كانوا يرون صورة الملك في القمر، وتتذكر فرحة الحي المحمدي بعودته سنة 1955، وسنها آنذاك ثماني سنوات، ثم الفرحة الكبرى بإعلان استقلال المغرب سنة 1956.

لهذا، كان لعيد العرش نكهة خاصة عند أمي، نكهة فرح الحرية والأمن والطمأنينة التي عمّت حييها “سوسيكا”، بعد أن زال الخوف الذي كانت تعيشه والدتها ونساء الحي على أزواجهن وأبنائهن، رغم صلابتهن واستعدادهن للتضحية بالغالي والنفيس من أجل حرية الوطن والملك.

كانت أمي وعائلتها يشاركون في احتفالات الحي المحمدي، وخصوصًا في “درب مولاي الشريف”، حيث كانوا يتنقلون بين خيمات الحفلات التي تعج بالموسيقيين والمغنيين، وسط أجواء مبهجة من الحلويات وكؤوس الشاي. وبعد وفاة الملك محمد الخامس، عاشت أمي بداية احتفالات عيد عرش الحسن الثاني مع بداية حياتها الزوجية مع أبي، المقاوم الاستقلالي، في أجواء الحي المحمدي نفسها.

بقيت الاحتفالات قائمة، لكن أجواءها بدأت تتغير تدريجيًا، فلم تعد تشجع على الحضور كما في السابق. كنا، ونحن صغار، نتابع السهرات الغنائية عبر القناة الوطنية الوحيدة، حيث كان يغلب عليها الطابع الوطني، لكن ما كان يشدني أكثر هو غناء ورقص “الشيخات”. ورغم أنني لم أكن أتجاوز العاشرة من عمري، كنت أحدق في وجوههن وهنّ يؤدين نغمات شعبية بصوت حزين ورقصات أثارت تعاطفي، دون أن أفهم تمامًا سبب هذا الشعور.

واصلت أمي سرد ذكرياتها عن احتفالات الخمسينيات والستينيات، مما جعلني ألحّ عليها في أحد أعياد العرش أن ترافقني وأختي وأخي إلى إحدى الحفلات، لكي أعيش الأجواء التي عايشتها هي في صغَرها. لم أكن أدرك تمامًا ما أطلبه، لكنني كنت أود مقارنة ما تخيلته عن تلك الاحتفالات مع الواقع.

فرحتُ كثيرًا عندما قبلت أمي طلبي. خرجنا من البيت واتجهنا نحو ساحة مسجد الملك في الحي المحمدي، حيث كانت بداية خيمات الحفلات. الشارع يعج بالناس والموسيقى الصاخبة وعربات بيع الحلويات والمثلجات و”الصوفة الوردية”. بهرني هذا الجو، فأنا الطفلة التي لا يُسمح لها بالخروج إلا برفقة والدي أو والدتي.

وصلنا إلى أول خيمة، وتهيأت لأشاهد عن قرب ما حكته لي أمي عن حفلات الخمسينيات والستينيات. كان المغنون والفرق الموسيقية يعزفون، والجمهور يستمتع بالنغم وكؤوس الشاي والحلويات في جو يسوده الاحترام. النساء، بجلابيبهن المحتشمة، كنّ يستمتعن كما الرجال دون حرج أو مضايقات. حاولت التقدم إلى الأمام لأرى بوضوح، لكن أمي شدّت يدي بقوة كي لا أضيع وسط الزحام.

ظهرت المنصة من بعيد، ورأيت رجالًا أنيقين يجلسون في الصفوف الأمامية. وضعت حواجز حديدية تفصلهم عن بقية الجمهور، الذي كان يتزاحم للعثور على مكان جيد لمتابعة الحفل. صُدمت عندما أدركت أن كؤوس الشاي وأطباق الحلويات كانت حكرًا على “الجمهور الأنيق”، ولا تُقدَّم لعامة الناس. لماذا إذن كانت أمي تقول إنها استمتعت في طفولتها بالشاي والحلويات؟! حاولت أن أنسى هذا الأمر، وركّزت على ما يدور على المنصة، لكنني لم أتمكن من رؤية شيء بسبب الزحام.

لم يكن أمامي سوى الإنصات إلى الموسيقى. كانت النغمات نفسها التي تبثها القناة التلفزيونية، أغانٍ لنساء يغنين ويرقصن بحزن… أو هكذا كنت أشعر. فجأة، رفعتني أمي بين يديها لأتمكن من الرؤية. فرحتُ كثيرًا، لكن ما رأيته زاد من إحساسي بالحزن: نساء بلباسهن التقليدي، يغنين ويرقصن بنبرة حزينة وألم دفين.

طلبتُ من أمي أن تعيدني إلى الأرض، وألححت عليها أن نعود إلى البيت، فلم أتحمل رؤية هذا المشهد مباشرة. كان حزن “الشيخات” عبر شاشة التلفزيون أقل وطأة.

عدنا إلى المنزل وقد انطفأت شعلة خيالي، الذي كذّبته أجواء حفلات أواسط السبعينيات. سألني أبي، رحمه الله، إن كنت قد استمتعت بالحفل، فأجبته بلا، لأنني لم أحصل على كأس شاي ولا قطعة حلوى، رغم أنني التهمت كيسًا من “كاوكاو المسكر” اشترته لي أمي.

لم أتمكن من التخلص من شعوري بحزن “الشيخات”، الذي كان في صغري إحساسًا غامضًا، لكنه اليوم إحساس واعٍ بحقيقة أنهن كن يطربننا ويرقصن على نغمات جروحهن ومعاناتهن.

*كاتبة مغربية مقيمة بفرنسا

 

Exit mobile version