زياد الرحباني: أنا صار لازم ودّعكن .. وخبّركن عنّي
أنا كلّ القصة لو منكن .. ما كنت بغنّي
غنّينا أغاني عَ وراقْ
غنية لواحد مشتاقْ
و دايماً بالآخر في آخر في وقت فراقْ.
بقلم: ماري القصيفي*
مات زياد الرحباني ميتته التاسعة والأخيرة، بعد صراع طويل مع الحياة، مخالفًا وعده لفيروز بألّا يغادرها قبلها.
حين أدرك عبقريّته، مات ميتة أولى، فالعبقريّ في بلاد جاحدة يعلم أن الشعوب لا تحتمل من يتجاوز فهمها.
حين انتبه لإعاقة شقيقه هلي، مات ميتة ثانية، إذ أدرك أن الجسد سجنٌ للروح، وأن الموسيقى لا تكفي وحدها لفكّ القيود.
حين رحل عاصي، مات ميتته الثالثة، وقد رأى بأمّ العين كيف يُدفن المبدعون على وقع قذائف الحرب لا ترانيم المجد.
حين انفجر دماغ ليال، مات ميتة رابعة، فقد تأكد أن عائلته موسومة بمصير معلّق بين الإبداع والغياب.
حين خذله الحبّ والزواج، مات ميتة خامسة، حين علم أن الآخر قد لا يفهم عمق روحه ولا يقترب من نُدرته.
وحين انكسرت العلاقة مع فيروز، في الخاصرة الأكثر وجعًا، مات ميتته السادسة. تعلّم أن الفنّ شيء، وأن الأخلاق في الحياة شيء آخر.
حين مات جوزف صقر، مات ميتته السابعة، إذ فقد صوتًا لا يُشبه أحدًا، وصديقًا نادرًا يجمع الفنّ والوفاء.
وحين فقد الأمل بلبنان الثقافة والفكر، وانبعثت من حوله أصوات النشاز، مات ميتته الثامنة.
ثم، استسلم أخيرًا للموت الأخير.
سامحيه يا فيروز.
فأنت تعلمين قبل غيرك أن ابنك منذور للرحيل، وأن العبقرية حمل ثقيل لا يُطاق.
لقد جاهد طويلًا، وصمد، وبقي واقفًا وسط عواصف الحياة، لا لشيء، بل لأجلك.
لكنه اليوم تعب. فذهب إلى حيث ينتظره عاصي وليال، في فرحٍ سماوي لا يشبه مرارة هذه الأرض.
العباقرة تعساء يا فيروز، وأنت شاهدة على ذلك.
العمر الذي وهبه لك زياد كان أطول مما توقعتِ، وأقصر مما كنتِ تتمنّين.
أشعر بسكينتك الآن، رغم سيف الألم المغروس في القلب.
ربما تقولين في سرك: ها هو أخيرًا قد عرف طعم الراحة، والحبّ، والرحمة.
لن يغدر به أحد، لن يطارده صحافي، ولن يخيّب أمله صديق أو نسيب.
كنتِ تتمنّين له زوجة وأولادًا.
لكنّك كنتِ تعرفين أنّ لا امرأة ستفهمه كما فهمته أنتِ،
وأن الأبوة لمن يحمل هذا القدر من الموسيقى ليست سوى ظلم مؤجّل.
كنتِ تريدينه سندًا لريما وهلي، لكنك حدستِ في عمقك أن مملكته ليست من هذا العالم.
لقد أورثتموه أنتِ وعاصي موهبة نادرة.
كيف لكتف واحدة أن تحمل صلبان زياد، وعاصي، وفيروز؟
كم هذا كثير على عمرٍ واحد!
سامحيه يا فيروز.
ليس موت زياد هو الحكاية المؤلمة،
بل حياته في هذا البلد الذي لا يُجيد إلّا نكران أبنائه الكبار.
كتب لنا وجعه بأصابع تئنّ،
علّنا ننسى نحن أوجاعنا.
رحل أخيرًا…
فوداعًا يا من أسكنتنا المعنى،
وتركنا نغني، دون أن نفهم دائمًا، كم كنتَ تتألّم.
*كاتبة لبنانية