بقلم: د. شكيب حلاق*
شكلت القضية الفلسطينية دائمًا موضوعًا ذا أهمية خاصة في الفكر العربي المعاصر، وحظيت بتناول واسع من قبل المفكرين مثل محمد عابد الجابري وحسن حنفي. كلاهما عالج القضية من زوايا فلسفية وسياسية واجتماعية مختلفة، تعكس رؤاهما الفكرية وأولوياتهما الأيديولوجية.
وفي عام 1989، شهدت الساحة الثقافية العربية حدثًا معرفيًا مهمًا ومفاجئًا للنخب الفكرية، حيث لم يكن متوقعًا في ظل سياق أدبي تقليدي متوارث منذ أجيال، كان يتسم غالبًا بغياب الحوار والاستماع الجاد لما يُقال، سواء من الأنظمة السياسية أو النخب الثقافية.
في هذا السياق، بادرت مجلة “اليوم السابع” التي كانت تصدر في باريس، إلى تنظيم حوار فريد من نوعه بين مفكرين بارزين هما: حسن حنفي من مصر، ممثلًا عن المشرق العربي، ومحمد عابد الجابري من المغرب، ممثلًا عن المغرب العربي. تناول هذا الحوار قضايا متعددة مثل الليبرالية، الأصولية، الوحدة العربية، العلمانية والإسلام، القومية العربية، الحداثة في العالم العربي، الناصرية، والقضية الفلسطينية.
هذا الحوار لم يكن مقتصرًا على الجابري وحنفي فقط، بل استقطب أيضًا ردود أفعال من نخبة من المثقفين العرب المهتمين بهذا النوع من النقاشات، ونُشرت هذه الردود مع المراسلات في كتاب بعنوان “حوار المشرق والمغرب”، موقّع من قبل الجابري وحنفي.
القضية الفلسطينية: بداية التباين بين المفكرين:
في هذا المقال سنتناول رؤية كل من الجابري وحنفي حول القضية الفلسطينية، يمكن تلخيصهما بفلسفتين لقضية واحدة. مع الإشارة إلى أنه رغم اختلاف وجهات النظر بينهما، إلا أن النقاش كان يتسم عمومًا بالاتفاق على المبادئ الأساسية، مع تباينات طفيفة في التفاصيل.
وجهة نظر حسن حنفي
الاستناد إلى الماضي وإمكانية التعايش مع اليهود
بدأ حسن حنفي مداخلته بالإشارة إلى فترات تاريخية شهدت ازدهارًا لليهود، حيث عاشوا في أمان وسلام بجوار المسلمين، مثل فترة الأندلس. وقال إن :
اليهود بلغوا ذروة ازدهارهم في الأندلس بقرطبة وغرناطة وطليطلة، حيث ازدهرت الفلسفة اليهودية وتداخلت الثقافة اليهودية والإسلامية في مجالات مثل الشعر، الطب، الفلسفة، والتصوف.”
كما أشار إلى فترة التنوير الفرنسي التي شهدت تعايشًا بين اليهود والأوروبيين دون حساسيات عرقية أو انغلاق هوياتي. وقال:
“اليهود يشكلون ثقافة عقلانية وأخلاقية وعالمية لا تختلف عن أي ثقافة أو دين آخر يشترك في المبادئ العامة للتنوير.”
واستند حنفي إلى هذه الفترات لإبراز إمكانية التعايش مع اليهود، مستندًا إلى أسماء بارزة من الأطباء والفلاسفة اليهود.
وجهة نظر محمد عابد الجابري
من الخطأ قياس الحاضر والمستقبل على الماضي
على النقيض، اتخذ الجابري موقفًا أكثر واقعية، مؤكدًا أن الحل الوحيد يكمن في المقاومة. وقال:
“لا أجد نفسي مجبرًا فقط على الاختلاف معك، بل أعتبر من واجبي أن أكون في خلاف كامل مع ما طرحته. إن استدعاءك لفترات من التعايش التاريخي لتبرير مواقف معاصرة هو طرح غير واقعي وغير منطقي.
القضية الفلسطينية بالنسبة للجابري ليست مجرد قضية سياسية، بل هي رمز للعجز العربي أمام الحداثة والاستعمار. إذ نراه يركز على أن تحرير فلسطين يتطلب أولًا إصلاحًا جذريًا في الواقع العربي من حيث إعادة بناء المؤسسات، الديمقراطية، والوحدة الوطنية. كما شدد على أهمية الوعي التاريخي لفهم جذور المشكلة الفلسطينية، معتبرًا أن جزءًا من فشل العرب في دعم القضية يعود إلى غياب استراتيجيات واضحة ومتماسكة.مؤكدا في الوقت ذاته، على ضرورة التمييز بين اليهودية كديانة والصهيونية كحركة سياسية استغلالية.
“التاريخ لا يعيد نفسه، يضيف الجابري، ومن الخطأ قياس الحاضر والمستقبل على الماضي. الأوضاع التي تصفها كفترات مزدهرة لليهود في الأندلس أو فرنسا ليست سوى استثناءات، ولا يمكن تعميمها أو اعتبارها نموذجًا للحل.”
واستطرد الجابري مشيرًا إلى أن الظروف الراهنة تتطلب مقاومة حقيقية، مضيفًا أن الحلول السلمية التي يقترحها حنفي لا تتناسب مع الحقائق السياسية والميدانية.
الخاتمة
بين عامي 1989 و2024، شهدت المنطقة تحولات جذرية وتفاقمت الجراح. وبينما فقدت العديد من الأطروحات السلمية مصداقيتها مع مرور الزمن، أثبتت مواقف الجابري صلابتها واتساقها مع الواقع. يؤكد ذلك أهمية إعادة النظر في أيديولوجية “السلام” التي تبناها حنفي وغيره، مقابل تبني رؤية مقاومة أكثر واقعية كما دعا إليها الجابري.
*شكيب حلاق أستاذ وباحث مقيم بباريس
بتصرف عن مقال تحليلي نشر بالفرنسية.
الرابط على موقع:
La question palestinienne : Muhammad Abed Al-Jabri versus Hassan Hanafi (Par: Chakib HALLAK)