“صلة رحم” ..

بسمة نسائية/ منبر بسمة

بقلم: الناقد فؤاد زويريق

شاهدت اليوم الحلقة الأخيرة من مسلسل ”صلة رحم”، والتقطت من مشهد النهاية هذه اللقطة التي تختزل كل الحلقات، امرأتان واقفتان في الواجهة وسط ضوء خافت، تواجهان بعضهما البعض بنظرات كلها حزن وشك، وفي العمق رضيع في حاضنة أكثر إنارة، المرأتان هما أمّان لرضيع واحد، وهذه هي عقدة الحكاية، اللقطة تعكس الهاجس، والقلق، والخوف، والريبة، والحزن، والحسرة… باختصار تعكس الكثير من المشاعر السلبية، رغم أن من المفروض أن تكون العكس، ولهذا تفسير تتضمنه الأحداث سيكتشفه المشاهد بنفسه.

بعد انتهائي من مشاهدة مسلسل ”صلة رحم” يمكنني القول الآن وبكل أريحية بأنه أجمل وأهم عمل درامي مصري لهذا الموسم، أجمل لأنه اهتم بكل مفردات العمل الإبداعية والتقنية، من جماليات الإخراج والتصوير والمونتاج، وحسن اختيار الممثلين، والتشخيص الرائع لكل منهم دون استثناء، دون أن ننسى أيضا الموسيقى التصويرية والحوار… لكن يبقى السيناريو للكاتب والسيناريست محمد هشام عبيه هو النواة الصلبة لهذا العمل حيث تحققت فيه معمارية السرد بكل تفاصيلها الإبداعية، مما سهل تسلسل الأحداث بكل انسيابية وسلاسة، فالسيناريو رغم اعتماده على حدث واحد هو تأجير الرحم من طرف الدكتور حسام/إياد نصار، إلا أن التحدي يكمن في تشعب وتشابك الخيوط الدرامية وتعدد الأحداث الفرعية، والغوص في نفسية الشخصيات، وقد نجح السيناريست وصناع العمل بشكل ذكي ومدروس في الحفاظ على تماسك البناء الدرامي ومنطقية أحداثه، والسيطرة على كل هذه الخيوط بعوالمها المختلفة والمتنوعة دون ارتباك يذكر، ودون السقوط في فخ الملل والتمطيط.

هذا العمل لا يحاكي الواقع بقدر ما يحاكي الذات ومؤرقاتها ومعاناتها، ولا يكتفي بسرد الحكاية بأسلوب كلاسيكي روتيني، بل يأخذنا إلى عمق الحكاية بتمفصلاتها النفسية والصراعات الداخلية لشخصياتها، فالحكاية من البداية انطلقت من قلب الشخصيات وليس من خارجها، وما موضوع تأجير الرحم سوى عنوان فرعي، لعنوان رئيسي أكبر وأهم هو صراع الأنا مع محيطها، ومع المجتمع الذي تتواجد فيه بتقاليده وأعرافه وقوانينه وشرائعه…  يمكن أن أصنف هذا العمل ضمن الأعمال ذات الطابع السوداوي حيث تدور أحداثه داخل مجتمع مخيف وصعب، وتعيش شخصياته بمختلف طبقاتها وفئاتها داخل عالم  “دستوبي” بئيس، حتى في علاقاتها العاطفية تصطدم مع بعضها البعض ويتحول الحب الى صراع ومعاناة مريرة، وقد تفنن المخرج تامر نادي في عكس هذه السوداوية بتخفيف الضوء وإضفاء مسحة قاتمة ومعتمة على أغلب المشاهد، ليعيش المتلقي بصدق قتامة الأحداث بصريا، ويرتبط مباشرة بالشخصيات وعمقها متجاوزا محيطها، وهذا هو المهم، فكما قلت العمل بحلقاته المختلفة هو جلسات تحليلية تهم قراءة وفهم دينامية بنية الانسان النفسية، بحكم انتمائه إلى مجتمع تتحكم فيه الكثير من التناقضات والمفارقات، وليس بالضرورة أن يكون المجتمع المصري ولا المجتمع الشرقي… الجميل في هذا العمل أيضا أنه لم يدخلنا دائرة الوعظ والخطابة المباشرة والإثارة المجانية، فقد كان محايدا في معالجته للقضية التي تناولها، كما كشف لنا سوءات شخصياته وأبرز لنا عيوبها قبل مَحاسنها، فلا توجد في العمل شخصية ملائكية صالحة فكل شخصية فيه تعيش داخل تناقضاتها الداخلية، كما تناول النهاية بشكل مفتوح ترمي بك في بحر من تساؤلات انسانية جدلية يصعب الإجابة عليها في ظل الفوارق الاجتماعية والدينية والاخلاقية والقانونية… التي تعيشها مجتمعاتنا.

 

 

Exit mobile version