بقلم: ذ. مليكة غبار
وأنا أقرأ رواية “دروب كازابلانكا” رغبت في أن أكون كعائشة عند قراءاتها العاشقة المتعددة في رحاب الربوة وهي قراءات تحول ما تقرؤه إلى نص بادخ في غناه ولذته ولربما أجمل وأمتع، يحفز على قراءته أو إعادة قراءته وفق إضاءات عائشة الماتعة.
تدعونا رواية “دروب كازابلانكا” كما يدل على ذلك عنوانها الذي هو مفتاح الدخول إلى الرواية والكشف عن خبايا مدينة كازابلانك عن أجوائها عن أحيائها القديمة والجديدة وعن عطورها وحماماتها وأسواقها، كما تدعونا للوقوف عند فترات مفصلية من خبايا تاريخها، بل عن خبايا وطن بأوجهه المتعددة وآلامه وأحزانه وذلك عبر تأمل فضاءاته المتنوعة كتجليات لهذا التاريخ إن على المستوى المعماري أو الاقتصادي أو الفكري والعلائقي.
على لسان “أحلام” حينا وعلى لسان “هاينة” أحيانا أخرى، نخوض تجربة الكشف عن دروب كازابلانكا هذه وفي بعض الأحيان يلتبس في ذهننا أيهما يحكي نظرا للتماهي بين الشخصيتين الرئيسيتين في أي منهما أحلام وأي منهما هاينة : مثلا في ص 14حين سألت أحلام هاينة- بعد أن عبرت عن قرار كتابة رواية تكون صديقتها أحد شخوصها – عن الاسم الذي تختاره لها في الرواية قائلة” أعرف أن أسماءنا لا تشبهنا إلا عندما نكون ذواتا متخيلة، فالكاتب يختار للذوات أسماء تدل عليها، فما الإسم الذي يدل عليك؟ قالت: هي.. من هي؟؟ أنا هي…أن تكون هي معناه أن تكون كل النساء هي هاينة التي تحولت من شخص عادي إلى شخص أسطوري محمل بالرموز لتصبح ذات دلالة كونية …
شعرت أحلام أنها هي، أي هاينة من ستكتب الرواية “وما أنا إلا قارئة أتهجى المعنى.”؟ وبالفعل كانت الرواية تبنى باسم المسماة قيد انطلاق الرواية أحلام، وبشكل انسيابي مبدع تتناوبان في الحكي فتأخذ هاينة القلم تارة وتعطيه لأحلام أحيانا أخرى وتمدنا كل منهما بإجابات عن تساؤلات فلسفية مقلقة حول تيمات الهوية… الحب والحيرة والموت والصمت والحياة…بلسان هاينة وأحلام اللتان هما، ” هاينة وأحلام هما نفسهما الشخص وظله مثل ما ورد في رواية الشاب “الظل يكسر الصمت” حيث فصل الراوي سلمان عن ظله بعد أن ضاق بسلبيته وسمى الظل سليم” صفحة201.
تحكي أحلام في صفحة 17 عن حبهما (هي وهاينة) المشترك للفلسفة وعن مشروع اختيارهما لتكملة مسيرتهما التعليمة في تخصص فلسفة.. غير أن ظروفا موضوعية وأخرى ذاتية جعلتهما تختاران مسارا تعليميا آخر (اختارت هاينة قسم اللغة العربية وآدابها وقررت أحلام الدراسة بكلية الحقوق بالبيضاء).
لعل ولع الفلسفة هو الذي ساهم بشكل كبير في إنجاز رواية حول مدينة كازابلانكا وذلك انطلاقا من كون الفلسفة في حد ذاتها هي بنت المدينة POLIS – CITY(ظهور الفلسفة في مدينة أثينا) وأن أبناء المدينة cityهم مواطنيهاCitizen.. ففي المدينة نشأت الفلسفة كتساؤلات..
والرواية على لسان أحلام- هاينة، تطرح تساؤلات حول ما تعنيه المواطنة وما تعنيه الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان في قلب المدينة كمجال واقعي تتحقق فيه كل مشاهد العيش المشترك وكمجال يخضع للتأمل في هذه المشاهد والتجليات على مستويات مختلفة، منها السياسي والاقتصادي والمعماري والقيمي والأخلاقي والثقافي … وأن سؤال المدينة كموضوع للكتابة هو فعلا سؤال ثقافي فلسفي بامتياز، لأن المدينة هي المجال الذي تدور فيه القضايا الفلسفية، وبالتالي فتأمل المدينة حافز على إعادة التفكير فيها وتأمل تناقضاتها واختلالاتها ومحاولة الرد على أسئلة محددات العيش المشترك داخل مدينة مثل كازبلانكا التي هي محج يأوي إليه الناس من كل حدب وصوب، في صفحة 8 “، “المدينة الجديدة مدينة المغاربة الوافدين من جنوب المغرب، شرقه وشماله، ومن كل البوادي والمدن التي شكلت المدينة لهم أرض الأحلام، مزيج ديمغرافي تحمل كل أسرة فيه انتماءها…” وما ينتج عن محددات العيش المشترك هذا من أسئلة الهوية ومكانة الأفراد داخل المدينة ومكانتها عندهم .|..
ونحن نستمتع بالجواب عن سؤال المدينة نصادف بإلحاح القضية الفلسطينية وحضور قضايا تخترق فصول الرواية من بينها الظلم، القهر العنف الجشع فهي تحكي حياة المهمشين، فتتكلم عن رابحة وعن عبيقة وأخيه التوأم وحياة سكان فندق البشير وتعطينا صور معبرة عن المهمشين المقصيين، فإنها تتحدث أيضا بشكل عرضاني عن أوضاع النساء وعن النظرة الدونية للمرأة حتى من طرف من يتكلمون باسم الحداثة، فالرواية ترسم العلاقة المتوترة، في غالب الأحيان، بين الرجل والمرأة أحلام: 23 مستمعة لشكاوي النساء المهددات بالتشرد تتعرض هي نفسها للطرد من بيت الزوجية.
تتحدث أيضا عن الصراع الخارجي والداخلي للنساء نتيجة الحتميات المفروضة والقيود التي يستعصي الانفلات منها: صفحة 55، عبرت المتوسط ملقية قيودي التي سأجدها في انتظاري في المطار تزحف نحوي …صراع خارجي وصراع نفسي داخلي الذي تعيشه النساء يثير وهم تكسير القيود…”ماذا تنتظرين؟ خفت أن يشتد النزاع بين أنايا”..
تتكلم الرواية بسخرية عن ابتذال حب المرأة: صفحة 28 ” ينثرون أسماء حبيباتهن مع قيئهم على الرصيف كنبغيك آ كنبغيك ”
كما تثير بنوع من الهزل بعض مشاهد نضال النساء وتمردهن على هذه الأوضاع: مثلا
29 معركة ضد الوصاية على النساء في المقهى حين طلب من النادل قهوة له وعصير برتقال لها فغاضه تصحيح الطالب قهوة في كأس ” أول القصيدة كفر”..
إبرازها مساهمة المرأة في تحرير البلاد((( مقاومة المرأة))) ولوجها إلى التعليم ثم خيبات ما بعد الاستقلال حيث الإقرار بدونية المرأة ..
إلى غير ذلك من الحكايات عن دروب تحفظ ذاكرة الجماعات والأفراد ..
تأبى الرواية ألا تتغلغل في مشاعرنا وفكرنا، نحن نصادف مجموعة من التقنيات التي توظفها (طبعا لا أدعي الإلمام بها كلها) بل أود فقط الوقوف عند بعضها مثل:
– الاسترجاعات التي تنقلنا من الحاضر إلى الماضي والمستقبل بعذوبة تمتعنا ونستشعر من خلالها لذة قراءة النص..
-التسريع : المرور بسرعة على الأحداث والفضاءات والدروب والقضايا التي تجد أنه ليس من الضروري الوقوف عندها على الأقل في الرواية الحالية ..
– التفاصيل: الإبطاء في الحكي عن أمور بعينها لأغراض أدبية تنسجم مع روح الرواية: مثل تحضير وجبات طعام، اقتناء ألبسة، الاعتناء بالهندام..الاستحمام ما أدراك ما صبيب الماء حين ينادي …
بالإضافة إلى تلك التقنيات أود الوقوف عند تقنية استهوتني وأنا أتجول في دروب كلزابلاكا
- التناص:
تناص فني يستدعي بعض التعابير والجمل الواردة في نصوص أخرى من مجالات أخرى قد تكون متباينة..
ففي الدروب تناص مع أقوال شعرية وأغاني تقول أحلام عندما كانت تصف درب البلدية مثلا …
– في الصفحة 13 أمجاد يا درب البلدية أمجاد تناص مع أغنية عبد الحليم حافظ “أمجاد يا عرب أمجاد” كلمات عبد الفتاح مصطفى: أمجاد يا عرب أمجاد في بلادنا كرام أسياد…يجي زمان ويروح زمان ولكل زمان حكاية ولكل حكاية لسان…
– في الصفحة 19 تقول أحلام حين حكيها عن زواجها المأزوم “اتفقنا على الزواج واتفقنا بعد ذلك على ألا نتفق” فالعبارة تحيلنا إلى قولة مأثورة منسوبة لابن خلدون : “اتفق العرب على ألا يتفقوا” وأيضا قول جمال الدين الافغاني: “شر أدواء العرب داء انقسام أهل، يتحدون على الاختلاف ويختلفون على الاتحاد، فقد اتفقوا ألا يتفقوا”..
في صفحة 22 يتناص تعبير”حالمون تفاجئنا الحوادث وكأنها قدر أحمق الخطى سحقت هامتي خطاه” مع نص أغنية عبد الحليم حافظ لست قلبي للشاعر كامل الشناوي ألحان محمد عبد الوهاب في الستينات من القرن الماضي ضمن فيلم معبودة الجماهير التي تعرضت لهجوم من طرف رجال الأزهر..
في الصفحة 30 يتقاطع قول “هل أحبته لأنها تحب البحر أم لأنه يفرد شراع سفينته في كل درس فتجري الرياح بما يشتهي” واحد من أبيات الشعر التي قالها المتنبي “ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن..
في صفحة 31 “نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء (كم خدعتنا الأغاني)” شعر أحمد شوقي ..
في الصفحة 37 حين تصورت أن كلام فاضل يقصدها هي “كانت جمل أخرى لم يقلها تنهال علي كسهام من كل اتجاه فتتكسر النصال على النصال ” تقاطع مع قول المتنبي “فصرت إذا أصابتني سهام تكسرت النصال على النصال النص= الحديدة التي في السهم= فصرت الآن إذا رماني الدهر بسهامه لم تصل إلى قلصفبي..
صفحة 45″في مدينة يتصالح فيها الشياطين والملائكة ” تعالق مع نص لطه حسين: ” مدينة الجن والملائكة” زهو يحكي عن باريس عندما زارها وهو طالب ..
كما أن هناك تقاطعات متعددة مع النص القرآني نذكر على سبيل المثال في صفحة 41 “ليطمئن قلبي” عبارة وردت في سورة البقرة على لسان النبي إبراهيم “كيف تحيي الموتى وهي رميم” باسم الله مجراها ومرساها سورة هود الآية 41
هي تقاطعات جميلة زودت رواية “دروب كازابلانكا” بنكهة جمالية ماتعة وفي نفس الوقت إحالة على المخزون الفكري والثقافي والقدرة على تطويع اللغة دون أن تفقد الرواية استقلاليتها.
من بين ما أثارني في الرواية هي انتماء جزء مهم منها إلى أدب الرحلة ..
- نص رحلي داخل نص الرواية
من صفحة 43 إلى يتم اعتباره 117نصا رحليا شغلت الرحلة إلى باريس أكثر من ثلت الرواية، حيث جعل الحكي عن قضاء عطلة شهر بباريس من هذا الجزء من الرواية نصا أدبيا رحليا بامتياز، نتعرف فيه على باريس بعيون عائشة..أي بعيون وصوت فئة اجتماعية وثقافية معينة تتأمل وتفكك وتحلل وتقارن..
في هذا الجزء من الرواية تسرد قصة رحلة تنطلق من المطار وركوب الطائرة: في صفحة 44 “أسلمت جسدي إلى بساط الريح أنظر إلى المضيفة وهي تتلو بعض التعليمات”… فاستقبال نجاة لها بمطار باريس لعل اختيار اسم نجاة هو النجاة من وضع معين هو نفسه الوضع الذي يجعل نجاة تهاجر ثم تقرر الاستقرار في مدينة تحمل مقومات المدينة اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا وعلائقيا… “مدينة يتصالح فيها الشياطين والملائكة”.
تمنحنا الرواية قراءة نقدية مقارنة: تعبر عن حضور مستمر لكازابلانكا في أحضان باريس سواء من حيث:
- المقارنة بين السمات الثقافية المتقاسمة بين كازا (المغرب) ولا سيما المعمار الذي يحيل إلى نموذج المعمار الكالونيالي وبعض مما يربط الغرب بفرنسا،
- الإشارة الرمزية لمؤامرة اختطاف المهدي بنبركة مثلا: التوقف أمام براسري ليبBrasserie LIP
- قيمة الزمن بباريس غالية في باريس حتى الطوابير على أبواب السينما للقراءة وقيمته بالبيضاء حيث ” مقاهي مدينتي تتعاطف مع الفراغ المطلق تفتح أبوابها وتفيض طاولاتها وكراسيها على الأرصفة، …يعصرون الزمن …”
- وصف لبعض مظاهر تطور التقنية التي لم تكن متداولة بعد ربما حتى في أرقى الدروب، مثلا: من أجل ولوج العمارة التي تقطن بها نجاة: ” تضغط نجاة على أزرار جهاز فتح الباب باستعمال شفرة مركبة من أربعة أرقام” “على بعد مائة متر كانت عاملة المتجر تركب شفرة على جهاز صغير فبرتفع الباب المعدني محدثا صليلا.”..
- الارتباط الوثيق بالهوية: حيث حضور التمسك بالحديث عن التراث والعادات والتمسك بحضور الأطباق المغرية التي تصف بتفصيل كيف تحضرها بنفسها وفق ما تتيحه أسواق باريس… البحث عن صور لدروب كازابلاكا عبر دروب باريس “تشابك دروب باريس مع دروب كازابلانكا تتقاطع تنفصل… وأنا بينها لا أعرف كيف أصل إلى ذاتي”
- محاولة البحث عن أجوبة لتساؤلات الانتماء والهجرة وعن صور جديدة للأنا عند الآخر وتساؤلات حول التعايش مع الآخ… صفحة 64 “باريس عالم الأشياء القصوى وأنت من أنت وأنا من أنا “
- الرحم المائي
للماء عموما وللحمام على وجه الخصوص حضور قوي في الرواية حيث اكتشاف الجسد وحيث التخلص من أدرانه وحيث التحرر من تمثلات المجتمع، بهذا الحضور الجميل تدخلنا الرواية إلى فضاء من المفترض أن يكون مغلقا على العموم ويتم فيه استحضار الاستحمام كعلاقة حميمية مع الذات بأحاسيسها وخدرها نفس الوقت نلمس أجوبة عن ما يرمز إليه الماء من شفرات مثلا:
- ص 6 اكتشاف الجسد بكل نتوءاته وتعرجاته .. خارطة جسد يحرره الماء والبخار من تمثلات المجتمع …الخروج من الحمام إعلان ولادة جديدة..
- ص46 يلفني الماء بكل حنان يتسرب الدفء إلى أطرافي فأكاد أغفو..
- ص 50 ينهمر الماء فوق جسدي شلالا أتجه نحوه أنتشي..أتجه نحوه مثل سمكة سلمون لا تسير مع التيار تنجذب إلى نبع الماء ، تتواصل معه، يهمس لها اهمس له بما يقال ومالا يقال … سحبني من لحظة التجلي صوت نجاة ..
- ص78 ببيت فاضل: لبيت نداء الماء وقفت تحت الدوش ليت الماء يجرف مع التعب ذكرياتنا وجعنا… ثم بعد ذلك تفصيل المنشفة والشورت ,,,
- ص82 ببيت فاضل: عدت من اغترابي إلى قواعدي أتوق إلى دوش ساخن لا غير… بدأت في فرك جسدي وشعري بالصابون أنتشي برائحة الغار..وهي تتسرب عبر مسامي وهو يوقع على جسدي سمفونية بحيرة البجع ..
- ص154 “توقظني من تأملي قطرات الماء المتساقطة من خصلات شعري، تسيل دموعا على صدري أنشف جسدي أتحمم بعطر وأسير فوق غيمة وردية” ..
- ..”جسدي ملك لي ومن حقي أن أحتفي به”…الخ
وإذا كان الماء يساهم في تطهير الذات جسديا ونفسيا ويحقق المتعة ولحظات مرتبط كتراث بالعبودية والتحضير للاغتصاب “..اخترع من أجل النساء أو بالأحرى السبايا اللواتي يسقن إلى فراش الأمير أو السلطان أو السيد في ليلة اغتصاب..”صفحة 6 ..” …”الله يبيض سعدك “..
… الحمام مكان ملائم لانتقاء العروس ، تبدو فتاة عارية كما خلقت بلا روتوش ولا تحسينات خارجية” صفحة 88
نزاع اللوكوس والميثوس
إن توظيف الأسطورة في الرواية استثمار للموروث الثقافي وإدراجه بطريقة فنية كأداة من أدوات الكتابة كما تمكن الأسطر من الإجابة -عند الكثير من الناس- على القضايا والتي يطرحها الواقع والمستعصية على الفهم والاستيعاب.
فالرواية تحمل- كما قلنا في البداية – في طياتها ثيمات متعددة: التعليم، الدين، ،الوجود الإنساني، الثقافة الشعبية، في جميع تعقيداتها وامتداداتها التاريخية كما يحضر نوع من التصدع بين الميثوس (الأسطورة ) واللوكوس (العقل) فيتم استدعاء الأسطورة في مجموعة من الأحداث التي تتسم بالتعقيد لأنها تنتمي إلى دواخل الذات والتي يطغى عليها نوع من الالتباس، الاستحضار للأساطير تكون له في بعض الأحيان وظيفة دفاعية وأحيانا يكون وسيلة لفهم العالم المحيط بالذات ولفهم الذات نفسها ، ولايرتبط التناقض داخل الذات فقط وإنما قد يعكس التناقض الذي يحمله المحيط نفسه بل الواقع كما تقدمه المدينة بأوجهه المتعددة ففي صفحة 20 تتم المقارنة بين تناقضات في سلوك (أم أحلام) المسلمة المهتمة بأناقتها المحبة للأفلام المصرية وأغاني أم كلثوم… وبين فضاءات المدينة، حيث يفصل الجسر بين حي الأحباس بعمرانه الجميل ومكتباته ودور النشر فيه… وبين الضفة الأخرى في درب البلدية حيث تباع اللحوم وكفتة الجمل ثم سوق الجميعة وما يعرض في أكشاكه من لوازم الشعودة…
هذا المد والجزر بين الميثوس واللوكوس تعكسه شخصية هاينة من خلال سلوكها وحوارها مع ذاتها: فتشبه نفسها بحورية البحار …وتستدعي النورس الذي يدق على قشر البيضة كلما تم الاقتراب من تحرير الذات، الكموسة التي تضم مائة حبة قمح وعشرة آلاف يا لطيف، التي أعد والديها عددا منها لتحمي أبناءهما وبناتهما لتحفظهم من كل سوء صفحة 73 “بعد أن أصبحت أتراجع أمام اتخاذ أي قرار ارتباط في حياتي عرفت أن حبات القمح لا تحميني من السوء بل من المغامرة”…
ورغم ذلك الرواية إن كانت تجد في الميثوس تجسيدا للواقع المعقد بتناقضاته فهي تناشد انتصار اللوكوس على الميثوس:
صفحة 153 ساعة الطلق آتية لاريب فيها والزعانف التي نبتت على جسدي ستختفي، أولد امرأة … على المرآة .. تنعكس صورة جسدي”..
صفحة 209 أريد أن أسترد اسمي الذي أخذته دون إذن مني…”
209 الغبار تسرب إلي من مسامي وتراكم داخلي / أما آن لك أن تترجلي عن حلمك..
هكذا تنتفض هاينة رغبة في استرجاع ذاتها واسمها بعد أن تموت أحلام أو بالأحرى بعد أن تموت الأحلام الكبيرة المريضة بالسرطان لتحيى أحلام متجددة على الشباب..
و”غدا يوم آخر … عام آخر ..قرن آخر” صفحة 21..