نعيمة سميح أيقونة الغناءالمغربي تخشى الضوء


بقلم: سميرة مغداد

بدأت علاقتي بنعيمة، منذ أزيد من 25 عاما..

 كنت عاشقة لأغانيها وبحة صوتها النابضة بالصدق، ومنبهرة بسر هذا العطاء وسحر حضورها في القلوب. ومنذ بداياتي كصحافية بداية التسعينات بحثت أكثر من مرة عن سبل التواصل معها لإجراء لقاء يقربني منها كإنسانة و نبض فنانة متفردة في كل شيء.

أجريت محاولات كثيرة للوصول إليها ومحاورتها، باءت كلها بالفشل،  كانت تتهرب بلطف…لكني لم أستسلم،  ولعلني كدت أحيانا استنزاف طاقة الحب الكبير التي أحملها بداخلي لكي أؤثر على نعيمة لكي تفتح لي قلبها. وكانت في كل محاولة ترد دائما :”ماعندي مانقول” ..

كانت نعيمة في حديثها تبدي تواضعا جما وتعتذر بحنان تخاطبني ب “حنينتي “وكنت كل مرة أذكرها بمكانتها وتعطش الناس لمعرفة أخبارها والاطمئنان عليها.

 أذكر أن حتى رئيس تحرير سيدتي آنذاك مطر الأحمدي، دخل على الخط ليطمئنها ويحدثها عن المكانة الطيبة التي تحظى بها في قلوب الخليجيين والعرب ككل. والحقيقة، أن الرجل كان طيبا ودودا للغاية ومعجبا بأغانيها. ويبدو أن حديثه معها وطمأنته وتزكيته لي جعلها توافق وتستقبلني في بيتها في الدارالبيضاء.

 كان بيتها عبارة عن فيلا بسيطة وصغيرة، وكان استقبالها لي بحضن كبير، وهي تردد” سمحي ليا ماعنديش مع الصحافة وماكانبغيش ندوي على راسي”.

أردت أن ابدأ الحوار بسرعة لأعود إلى الرباط ، لكنها قالت: ” ما يمكنش نهضرو قبل ما تشربي وتاكلي شي حاجة”..

كانت مضيافة جدا وكلما هممت بتشغيل آلة التسجيل، يصيبها نوع من الارتباك والخوف. أكدت لها أن التسجيل لي فقط لكي لا انسي ما ستقوله وطمأنتها أن كل شيء سيكون على مايرام.

قلت لها سنتحدث عادي مثل أختين وصديقتين.. وبعد مرور أكثر من نصف ساعة ، بدأت تتحدث دون أن يختفي ارتباكها المرفوق بالخجل، والمفاجأة التي وجدت هي هذا التواضع الجم في حديثها والطيبوبة المتدفقة في كلامها.. لكن، حينما تكون أمام سؤال شخصي تنتابها حالة غضب وأعود لطمأنتها من جديد..

أذكر أن من بين الأمور التي باحت لي بها، هي أنها كانت شاهدة في طفولتها على انهيار أحد بيوت الجيران ووفاة أفراده وهو الحادث الذي ترك ألما كبيرا لم يفارقها لدرجة أنها لا زالت تستحضره إلى اليوم.

كانت نعيمة تتحدث بكثير من الود عن الجميع وبلغة السماح والتسامح  مع الكل، حينذاك قالت لي:” ما أريده هو أن أربي ابني وأعيش بسلام”.

تحدثت أيضا عن مشاكل صحية تعاني منها وكشفت عن الحزن اللصيق بها في الأغاني.. كانت تقول إن صوتها يحمل شجن كهبة من عند الله وكل من يكتب لها يأخذ بعين الاعتبار ذلك.

قالت أحيانا تنزعج من ذلك، لأنها ترغب في أن تغني وتصدح بالفرح..

كان هذا اللقاء، إعلان عن بداية علاقة جميلة و طيبة مع نعيمة التي اكتشفت زهدها في الحياة وطيبتها وإحساسها المرهف جدا..

تحدثت عن اعتزازها بمكانتها الخاصة لدى الملك الراحل الحسن الثاني وكيف كان يناديها ب “المغربية”، لأنها اختارت أن تغني دائما من المغرب وإليه..

بقينا على تواصل أنا ونعيمة التي اذكر أنها قالت لي أيضا:”  احتاج إلى أناس مثلك هادئين ورزينين لأتشبع بالاطمئنان، لم اعد اطيق الصخب والناس العصبيين”.

 بدت نعيمة مكتفية قنوعة بما لديها ولا تريد شيئا غير الستر والصحة، والاطمئنان على مستقبل وحيدها شمس، شغلها الشاغل كان هو ابنها، كانت تريد أن تطمئن عليه وتحقق له ما يريد.

تواصلت فيما بعد مع نعيمة، عبر الهاتف وكنت أجدها مرات حزينة ومرات مزهوة بلحظات فرح..

بعد اللقاء الذي نشر على حلقتين، انقطع تواصلنا لمدة، لكنني كنت دائما أتواصل معها عبر الهاتف وكنت أبلغها حب و إعجاب المحيطين بي لها، من بينهم الكاتب عبد القادر الشاوي الذي كان يحفظ أغانيها من زمن الاعتقال وكانت تسعد كثيرا بهكذا اعتراف خاصة من المثقفين والإعلاميين.

 مع مطلع عام ألفين، طلبت منها إجراء لقاء أخر، وافقت بصعوبة، لكنها اشترطت أن نلتقي ونتحدث فقط دون بعيدا عن العمل أو تسجيل صحفي. وكانت تدعوني أن أزورها باستمرار، بعد أن انتقلت للسكن في مدينة بنسليمان التي لا زالت تقطنها حتى اليوم.

 غادرت  الدارالبيضاء، لأن طقس هذه المدينة لا يلائمها،  كما كانت تقول.

وفي إحدى المرات قررت زيارة نعيمة،  ورحبت بي وتواعدنا على اللقاء ببيتها بمدينة بن سليمان. ذهبت فعلا حسب الموعد ورافقتني في هذه الرحلة، صديقتي الصحافية عزيزة حلاق التي كانت ولازالت من عشاق فنها وصوتها.

 وما إن وصلنا، حتى اتصلت معتذرة لتخبرني أنها تنتظرني في المحمدية، وقالت إنها تنتظرني في أحد المطاعم على الشاطئ. وككل مرة، وفي الوقت الذي كنت مطالبة أنا فيه بتسليم مادة عنها صباحا، أصرت هي  أن نتناول شيئا فالوقت غذاء..

أقسمت أن نتناول شيئا وكان لها ذلك، واقترحت بعدها إجراء اللقاء قرب الشاطئ، في الطريق كان هناك متسول يطلب بعض الدراهم وقفت وطلبت منه أن يقترب ناولته ورقة نقدية كانت بحوزتها وهي تتأسف عن عدم وجود مال كاف في حوزتها رافقتها وبدأت تقول بتخوف ماذا تريدين أن تعرفي؟  ..لا تطرحي علي أسئلة لتصطادنني أنا لا أثق في الصحفيين..كانت تجيب وتتوقف وتقلب الموضوع بل نادت على أحد الدركيين المارين الذي حياها بحرارة وطلبت منه أن تجرب قبعته،  وكان لها ذلك. كان كل حديثها  عن ابنها وعن إخوتها الذين مازالوا يحتاجون لمساعدتها، وتحدثت بكثير من الشجن عن والدها رحمه الله.

 كان لقاءا  غريبا ولعلني كنت فيه أنا المستجوبة وليست هي.

والجميل، أنها أصرت أن ترافقنا إلى الرباط حتى تطمئن علي. ركبت معي وتكلف سائق كان معها  بأن يتبعنا وهو يسوق سيارتها المتواضعة.

 في الطريق الرئيسية إلى الرباط صادفنا حادثة سير، تعرض فيها أحد الراكبين لجروح،  وكان يتألم صرخت وضغطت على يدي بقوة  وهي تصرخ، توقفي يجب أن نساعدهم يجب أن يحضر الإسعاف، نزلت من السيارة، نادت على الدركي وهي تردد:” الله على حنيني الله قطع لي قلبي”.

 انتبه الدركي لها وبادر إلى تحيتها بحرارة وطمئنها بأن الإسعاف في الطريق بينما هي تتألم وتصدر شبه أنين..كانت مضطربة وقلقة وترتعش بينما أنا متوترة وأريد أن أصل بسلام إلى الرباط، كانت تردد يجب أن نبقى حتى يأتي الإسعاف وبالكاد استطعنا إقناعها أن المصاب ليس في خطر،لم انته هنا مع نعيمة بل أصرت أن نجلس في احد المقاهي بحي اكدال وأمرتني  بأن احضر لها ابنتي لكي تراها، وبالفعل اضطررت أن أتي بابنتي من البيت حملتها بين ذراعيها وغنت لها لكن ابنتي التي كانت لا تتجاوز خمس سنوات أو أقل صرخت، الأمر الذي اغضب نعيمة ولعله أحزنها أيضا.

نعيمة حالة فريدة مخزونها الإنساني لاحدود له، نجمة اختارت الظل رغم الحب الكبير الذي كانت تجده أينما رحلت وارتحل.

كم مرة فكرت ومعي آخرون في تكريمها وخططنا واشتغلنا على الفكرة، لكن نعيمة  لم يغريها شيء، كل ما كانت  تتمناه أن تعيش لابنها شمس وتراه مستقرا وسعيدا خاصة بعدما أصبحت جدة، حياتها كانت ولازالت لوحيدها شمس وأبنائه.

Exit mobile version