حسن بيريش عن لطيفة باقا يكتب
(1)
إذا كنت لا تتقن وضع السؤال، ولا تبرع في توقيته، عليك الاكتفاء بقراءتها، لا اللجوء إلى كتابتها. وبين الأمرين هي ستحتويك في مكر استفهامها، دون أن تفلت أنت من فخ استعجابك.
إنها تحرضك على الجواب، وأنت تقرأها، وإنك تحثها على السؤال، وهي تكتبك. إذن، في السؤال ستبقى لابثا، وعن مناوشة الجواب لن تحيد.
حين تفتح شهيتك على عبارتها، من أول جملة، حتى ٱخر سطر، ستجد في انتظارك شكلا مغابرا من السرد، يخلخل ٱفاق انتظارك، يطوح بك نحو فلوات حكي لا عهد لك بها، ويقودك، أنت البصير، صوب بصيرة أضوأ مما ظنت عين قراءتك، وما توقع خبء انفعالك.
وأنى سرت، وأنى توقفت، في فراديس نصوصها، سيظل ميثاق القراءة، وعقد الكتابة، في عصمتها…
“الكتابة تتنصل من
قبضة الجواب،
وتجنح إلى
حرية السؤال”.
(2)
من يذهب إلى نص لطيفة باقا، وليس في حقيبة سريرته جريرة بحجم حلم، سيعود خالي الوفاض من ثراء المعنى الممهور بأحلام يدها الكاتبة، وقلبها السارد.
الحلم يراع يحض على ارتكاب القصة، والقصة نزوة تشي بالوصال مع الحلم
ثنائية فريدة تتيح لي القبض على ما يتسرب من حكيها، والاستمساك بتفاصيل دالة، عبرها تتقن القصة مواعيدها الكبرى مع واقع عنيد حد الانتصار عليه بكتابته
هنا، تحديدا، أرى وهج لطيفة، ألمحه وهو يسري في جبلة السرد المفتوح على فداحة المنتظر، وعلى شهوة المأمول، دون أن يدرك خلاصه من وعثاء الواقع، ومن ثقل الحلم، حيث القصة في مواجهة مصيرها.
أيمكن أن نتخيل
تجليات لطيفة باقا
دون نزوات الحلم..؟!
(3)
شهوات الحلم عند لطيفة، تنكتب بمنأى عن وعيها، وعلى مقربة من إدراكها. ذلك لأن صبوات الأحلام، حين تنقلب سرودا، لا تجهش إلا في رحاب العقل الباطني.
وهي أحلام تتشكل في اليقظة، لا في الغفوة، وتنبعث في بياضات الليالي، لا في ليالي البياضات. لكي تحلم، يلزمك السفور في حجاب الواقع.
هنا براعة كاتبتنا، هنا مهارتها في تحويل الصائر إلى خيال، والانتقال بالعادي إلى تموجات الاستثنائي، وتجسير جماع التواصل مع المدهش، الغرائبي.
وها هي لطيفة تضيء هذه العتمات، حين تؤكد، في حوار أجراه معها عبد الكريم واكريم
“عدد من نصوصي هي في الأصل
أحلام استيقظت في كبد الليل
لأكتبها
هل أستثمرها بوعي أو بلا وعي؟
في الحقيقة أنا أحلم كثيرا،
، ربما يوميا (أو ليليا على الأرجح)
لكن هناك أحلام تلحّ أكثر من أخرى،
وهناك صدف بعينها
تجعل من الحلم إرهاصا لنص”….
(4)
في لهيب صيف 1993، وفي نزل صغير داخل حي عتيق بأصيلة، التهمت، لا أقول قرأت، دهشتها الأولى “ما الذي نفعله؟”. أقرضني إياها صديق، أذكر، الٱن، ابتسامته وهو يناولني المجموعة، قائلا لي، بزهو كبير:
“السي حسن،
إذا قرأت هذه القصص،
ستتأكد أن القصة المغربية
لم تدخل بعد
“..!!غرفة الإنعاش
قوله فتح شهيتي للقراءة، وقادني إلى التبعثر بين دفتي القصص، ولم أشعر بنفسي، إلا وأنا في ٱخر صفحة، وفي أوائل استياء، لأن النصوص انتهت، ولأن انهماكي الكامل
والغائر في عوالمها، يبتغي المزيد..
ولفرط انشدادي إلى بديع لغتها، ومهارة رسم شخوصها، واختلاف تمظهراتها السردية، وذكاء التقاطها المشاكس لليومي، العابر، والمعتم، كدت أتصل بصديقي، لأقول له إحساسي في عبارة واحدة:
السي مصطفى،
. القصة بصحة جيدة
وأنا من سألج
..!! غرفة الإنعاش
(5)
لطيفة باقا لا تكتب على غرار كاتبات أخريات، ولا ترضى لقصتها أن تكون مجرد عصفورة عادية تقتفي أثر السرب، وتحلق في سماء السرد بجناحين مستعارين.
لذا، هي لا تتردد في الخروج على الإجماع، ومحو أثر كل معمم يصادف طريق يراعها، وبالتالي، التمسك بعناد أدبي جذاب، عبره تكرس نفسها مبدعة جد مختلفة.
رأيت، وأرى ٱيات ذلك، عبر موقفها المغاير، المثير للإنتباه، اتجاه قضيتين، كلتاهما تبرز انفصال هذه الكاتبة الرافضة للمحايث، عن الوعي الجماعي.
الأولى: رصد اتساع الجرح النسائي، وتعرية المسكوت عنه والمخبوء في حياة النساء المغربيات، بدون وضع “الثقافة الفحولية”، بتعبير وجدان الصائغ، في قفص الاتهام
. “النساء في نصوصي
لا يحاكمن الرجل،
بل يحاولن أن يفهمنه
ليقتربن منه أكثر.
أحكي وضعنا كنساء
في ثقافة تكيل بمكيالين،
وأقدم، في النهاية،
..”. احتمالا آخر للحكاية
الثانية: تكريس مفهوم “الكتابة النسائية”,، بوصفها فعلا له تحققاته على صعيد الممارسة، دون الذهاب إلى حد قبول التصنيف المتعسف للكتابة على أساس الجنس.
“أنا فعلا أعتقد في وجود
كتابة نسائية.
على اعتبار أن الكتابة
التي تكتبها النساء
ترتبط بأجسادهن وبالثقافة
التي تجعل من وجودهنّ في المجتمع
وجودا له خصوصية مشروطة
بوضع تاريخي واجتماعي
تضافرت فيه عوامل بعينها
لتجعل منه وضعا
يختلف عن وضع الرجال”.