متخيل الفحولة: الغرب الذي لا ينتظرك

بقلم: عبد العزيز كوكاس

“السفر الحقيقي يبدأ حين نكفّ عن رؤية الآخر كمرآة لانتصاراتنا أو إخفاقاتنا” إدوارد سعيد

قبل أن نسافر نحن أبناء الجنوب، قبل أن نصل إلى هذا الغرب المتقدم، وجدنا أن المحكيات الشعبية، الأفلام والأساطير الذكورية غذّت متخيلنا الجماعي عن “الفحولة المشرقية” أو “الجنوبية” مقابل “أنوثة الغرب المستباحة”، بذلك الحلم المريض الذي كان يسكننا ونحن صغارا: أن تكون في باريس أو أمستردام أو مدريد… يعني أنك فجأة تصبح مطلوبا بقوة، تتساقط النساء في فراشك مثل فراشات الضوء، فحلًا بلا كدّ، مطلوبًا بلا جهد، محاطًا بنساء ينتظرنك لتمنّ عليهنّ بلمستك الشرقية.

يعود أصل هذه الصورة للظاهرة الاستشراقية، حيث صوّر الغرب الرجل الشرقي في الأدب والتشكيل والسينما خاصة من خلال عدسة استشراقية، غالبًا ما كانت تحمل طابعًا نمطيا يُخلط بين الإعجاب والتهويل، بين الجاذبية والقسوة، تحكمت فيها تصورات استعمارية وثقافية خدمت مصالح الغرب، حيث يظهر الرجل الشرقي غالبا كـ”شيخ” قوي، غامض، محاط بالجواري، يعيش في قصور فاخرة ويملك سلطة مطلقة.. هذه الصورة غذّت خيال النساء الغربيات، حيث بدا الرجل الشرقي رمزًا للرجولة والهيبة والقدرة على الحماية، مقابل الرجل الغربي الذي قيّدته قواعد المجتمع الصارمة.. صور الرجل الشرقي بأنه يجمع بين الجاذبية والهيمنة ويعيش في عالم يفيض بالمتعة الحسية والترف.. هذا المتخيل الفانتازي عن الآخر غذّته لوحات المستشرقين التي صوّرت الحريم والقصور الشرقية كأماكن للمتعة والجمال، ومعظم هؤلاء لم يروا بلدا مشرقيا في حياتهم، بل استوحوا إبداعاتهم من المحكيات الشعبية وقصص ألف ليلة وليلة.

انقلبت هذه الصورة عندنا إلى افتتان الغربيات بالقادمين من شمال إفريقيا خاصة، حيث الفحولة والرجولة مع لمسة من القوة الذكورية البدائية.. لقد كَبُرنا على متخيل صور لنا الغرب كما لو كان أرضًا بكرًا تنتظرنا لنخصبها، النساء هناك “متحررات”، ومجرد أن تصل بجوازك المثقل بالحروف العجيبة، ستقع الحسناوات في غرامك كما تقع التفاحة الناضجة من الشجرة، قيل لنا: “الغربيون باردون، الغربيات فارغات، والعربي فقط يملأهن”.. قالت لنا السينما الرديئة، حكايات الأحياء الفقيرة وبعض كتب الأدب الذكوري ومحكيات المهاجرين من أبناء أحيائنا حين يعودون محمّلين بالأوهام والقمصان المستوردة، سرديات فردوسية يخفون بها جحيمهم هناك: “كل امرأة في الغرب تنتظر رجلا يشبهك، فقط كن هناك.”

وكأن الذكورة العربية المأزومة لم تجد عزاءها إلا في جسد أنثى غريبة، موضوعة في الحكاية كفراغ ينتظر الامتلاء، ككأس لا معنى لها إلا إذا سُكبت فيها الفحولة. وقد وقف جورج طرابيشي على هذه الصورة المهتزة للآخر في الرواية العربية، في كتابه الذائع الصيت “شرق/غرب: فحولة – أنوثة”، وأبرز كيف أن المثقف العربي الذكر حين واجه الغرب، لم يكتب الآخر، بل كتب شهوته في الآخر. كتب خوفه، افتتانه وانكساره المقنّع بقناع الغلبة. فصار “الغرب” في المخيال الروائي ليس فضاء معرفيًا أو حضاريًا، بل حلبة لإثبات رجولة فقدها في الشرق. وفي تلك الروايات، لم يكن الجسد الغربي أنثى كاملة، بل “أنثى-رمز” لفحولة متوهمة، تعويض عن خيبات الذات ومرآة تعكس أحلام السيادة.

لكن الحقيقة، كما نعرفها في السفر، في التّماس الحي مع العيون، في الحوار الحقيقي مع الغربيات، أكثر تعقيدًا وأكثر صمتًا. في الغرب، لا أحد ينتظر أحدًا. وفي كل امرأة، هناك حياة كاملة لا تسمح لأحد أن “يملأها”، لأن الكينونة ليست وعاء. لم نكن نعلم أننا نردد وهما ذكوريًا صغيرا، مريضا ومضحكًا. حتى وصلنا باريس، مدريد، نيويورك، أمستردام، لندن… فلم تفتح لنا النساء أبواب الغرام، ولا سألتنا امرأة عن “فحولتنا”، نمرّ أمامهن فلا يتحولن إلى شلال من الانبهار. نبتسم لإحداهن فنرى في نظرتها قانونًا لا يُساوم: “لست معجبة بك فقط لأنك غريب.”

إنها لحظة إدراك صادمة: لا ينتظرك الغرب لتحبك نساؤه ولا ليمنحك الجاه. أنت لست مركز الكون هنا. أنت غريب يُعامَل باحترام ويُساءَل إن أخطأ. الأنوثة هنا حرة لكنها ليست متاحة. والحب هنا اختيار لا انبهار بمرويات شرقية فحولية. يخلع السفر عنك أوهامك. تكتشف أن الرجولة سلوك متحضر، نبرة محسوبة، نظرة محترمة، حضور خفيف. والنساء ينتظرن رجلًا يرى فيهن إنسانًا لا موضوعا للغزو.

وهكذا، يسقط كل شيء: وهم أنك ستغزو، وهم أنك محبوب فقط لأنك مختلف، وهم أن لغتك الموشومة بالحاء والعين والقاف والضاد تثير الحنين الغامض. يسقط كل شيء وتبقى فقط أنت.. عارٍ من غرورك تتعلم كيف تكون بشرا لا ذكرا منتفخًا.

كان هذا المتخيل جزءًا من تربيتنا، من نكاتنا، من مراهقتنا، من صورنا عن الآخر. السفر وحده من حررنا من دور “الصياد”، وجعل من كل واحد منا إنسانًا يبحث عن علاقة متكافئة، عن لقاء لا غزو. عن تبادل لا هيمنة. ففي السفر يسقط متخيل الفحولة وتُكشف رجولتك على حقيقتها: في خفتك، في احترامك، في إنسانيتك لا في قدرتك على الفتح.

هناك شيء ناعم، لكنه حاسم، يحدث للمسافر: يبدأ في التفكّك من الداخل كمن يتحرّر من طبقات لم يكن يعلم أنه يرتديها. تتعرّى الذات من أوهام الثبات. تكتشف أن ما كنت تظنه “أنت” لم يكن سوى رُكام من الأحكام المسبقة. نحن لا نولد بذات جاهزة، يتم تنميطنا منذ الطفولة في قوالب جاهزة: أن تكون وطنيًا، ذكوريًا، مستقيمًا، جادًا، ناجحًا، قويًا، مقبولًا، مفهومًا ومتوقعًا… لكن السفر، ذلك الكفر الجميل بالانتماء الأعمى، يفكّك كل ذلك بهدوء. في أرضٍ لا تعرفك وفي لغةٍ لا تفهمك، تكتشف أنك لست ما ظننت أنك أنت. وأن الآخر، الذي كنت تراه من خلف الحذر، ليس جحيما، عدوا ولا نقيضًا، إنه كائن مثلك: مرتبك، هشّ، قلق ويخاف أن يُحكم عليه كما كنت تفعل دون أن تدري.

تسقط في السفر “المخيالات الجمعية” كجدران من ورق مبلل. تلك الصور الجاهزة عن الآخر: عن الأوروبي، عن العربي، عن المرأة، عن الإفريقي، عن المختلف.. تسقط أمام مشهد بسيط: شخص يساعدك على حمل حقيبتك دون أن يعرف اسمك. الارتباك الذي تشعر به في أرض جديدة ليس ضعفًا. إنه علامة صحو. علامة أن عقلك لا يُعيد إنتاج الصور النمطية بسهولة. أنك أخيرا تعيش دون أن تُصنّف ودون أن تشرح لنفسك ما معنى العيش.

السفر تجربة بوظيفة مزدوجة: تجربة تراكم معارف جديدة وتجربة تفريغ ما تكدّس فينا من يقين، وثوق، جُمل محفوظة، عادات موروثة وصور مكرّرة. فكل يقين لم يُختبر هو وهم أنيق وكل ارتباك عميق هو علامة بحث صادق.

Exit mobile version