السوسيولوجيا النقدية… حين يتحول العلم إلى مرآة للمجتمع
حين تتحول السوسيولوجيا إلى فعل مقاومة
بقلم: عبد الله الشامي
في العالم العربي، يُنظر إلى علم الاجتماع غالبًا كتخصّص أكاديمي جاف، محصور في قاعات الجامعة ومقرراتها النظرية. هذا التصور يجعلنا نغفل عن حقيقة أن علم الاجتماع، في أحد تياراته، كان وما يزال أداة لكشف الأعطاب العميقة التي تسكن مجتمعاتنا.
نتحدث هنا عن السوسيولوجيا النقدية، التي ترفض الاكتفاء بالمراقبة والتوصيف، وتصرّ على مساءلة الواقع والسلطة والخطابات السائدة. يشبه هذا التيار طبيبًا لا يكتفي بوصف الأعراض، بل يبحث عن الأسباب ويقترح طرق العلاج. إنه يرفض الحياد العلمي عندما يصبح غطاءً للظلم، فالصمت أمام الاستبداد ليس موضوعية، بل تحيزًا للسلطة.
في السياق العربي، وجدت السوسيولوجيا النقدية نفسها أمام تحديات مركّبة: أنظمة سياسية متصلبة، اقتصادات تابعة، شعوب تعيش على إيقاع الهزائم، وأسئلة وجودية حول الحرية والهوية والعدالة. ومع كل هذه التعقيدات، برزت أسماء لم تكتف بالتحليل البارد، بل تبنّت مشروعًا نقديًا للتغيير.
المهدي عامل قدّم رؤية جذرية لبنية التبعية في مجتمعاتنا، ودفع حياتَه ثمن مواقفه. حليم بركات كتب عن الاغتراب والسلطة والتمزق النفسي للإنسان العربي. عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري حملوا معاول النقد إلى “العقل العربي”، محاولين مساءلته من الداخل. أما نوال السعداوي، فقد جعلت قضية المرأة مدخلاً لمساءلة منظومة السلطة بكامل أبعادها، من السياسي إلى الديني والاجتماعي.
ما يجمع هؤلاء، على اختلاف خلفياتهم، إيمانهم العميق بأن المثقف ليس مزيّنًا للواقع، بل مقلقًا له. فوظيفته أن يزعج، أن يضع المجتمع أمام مرآته، حتى وإن كانت الصورة صادمة أو قاسية. المعرفة النقدية لا تسعى إلى راحة الضمير، بل لتحريكَه ودفعه نحو التغيير.
اليوم، وبعد عقد ونصف من الانتفاضات والثورات العربية، تزداد الحاجة إلى هذا الصوت النقدي. فالمجتمعات التي عاشت لحظات حلم ثم انكسار، تجد نفسها أمام سؤال حارق: لماذا أعادت الأنظمة إنتاج نفسها؟ وأين موقع الإنسان العربي في معادلة السلطة والحرية؟ هنا يعود دور السوسيولوجيا النقدية، لتفضح آليات القمع، تكشف زيف الخطابات الرسمية، وتمنح الناس وعيًا جديدًا بأن ما يعيشونه ليس قدرًا أبديًا.
قد لا يملك الباحث أو الكاتب سلطة التغيير المباشر، لكنه يملك ما هو أخطر من السلطة المادية: سلاح الكلمة، وجرأة السؤال، وإرادة المواجهة. وهذا وحده كافٍ لإبقاء الأمل حيًا، ولإقناعنا بأن السوسيولوجيا ليست علمًا جامدًا، بل فعل مقاومة مستمر ضد التواطؤ والصمت والتبرير.
يبقى السؤال مفتوحًا: هل ستواصل السوسيولوجيا النقدية دورها كأداة مقاومة في عالم يزداد فيه القمع حنكة وتعقيدًا؟ وما الذي يمكن لكل واحد منا فعله، مستفيدًا من هذا الصوت النقدي؟