شكيب حلاق يكتب:تأملات في فكر فراس السواح

على عكس الفكرة القائلة بأن العالم الإسلامي محكوم عليه بالبقاء أسيرًا لماضٍ جامد ولاهوتٍ صارم، انخرط العديد من العلماء والمفكرين في البلدان العربية الإسلامية في حركة التنوير التي تهدف إلى إعادة التفكير في التراث الديني الإسلامي وتطويره.

ومنذ بدايات العصر الحديث، برزت شخصيات فكرية بارزة مثل علي عبد الرازق، وطه حسين، وفرج فودة، وسيد القمني، وعبد الكريم سروش، ومحمد شحرور، ونصر حامد أبو زيد، ومحمد عابد الجابري، وغيرهم، الذين شكلوا أرضية غنية لهذا التيار المتجدد.

في هذا السياق، ظهر اسم فراس السواح، المفكر السوري المتمرد على السائد، الذي أضاف بصمته الخاصة وأفقًا جديدًا إلى الحقل التنويري الإسلامي. رغم أنه أقل شهرة لدى الإسلامولوجيين الأوروبيين مقارنة ببعض أقرانه، إلا أن مسيرته الفكرية وأعماله العميقة في مجالات الميثولوجيا والدين المقارن تضعه ضمن قلة من الرواد الذين يفتحون آفاقًا جديدة في فهم الدين والتراث الإسلامي.

من هو فراس السواح؟

فراس السواح مفكر سوري وُلد في مدينة حمص عام 1941، وحاصل على شهادة في الاقتصاد. بين 2012 و2016، عمل أستاذًا للحضارة العربية وتاريخ الأديان في الشرق الأوسط بجامعة الدراسات الأجنبية في بكين. في كتابه الأول المعنون “المغامرة الأولى للعقل”، أطلق ثورة فكرية حول أديان الشرق الأوسط، قبل أن يتعمق في استكشاف الأديان ومعانيها في كتابه “دين الإنسان”. وهو مؤلف لعدد كبير من الكتب يبلغ 28 مؤلفًا، ويُعتبر على نطاق واسع رائدًا بارزًا في مجال الميثولوجيا (علم الأساطير) والدين المقارن في العالم العربي.

ثلاثة مجالات معرفية تشكل جوهر أعماله:

1) فينومينولوجيا الدين (ظاهرية الدين):

رغم استخدام فراس السواح لمصطلح “تاريخ الأديان” لوصف موضوع بحثه، فإنه يرى أن المصطلح الأدق هو “ظاهرية الدين”، والتي تقع في منطقة وسطى بين فلسفة الدين وتاريخه. فبينما تعبر فلسفة الدين عن أفكار ومواقف شخصية وتركز على التأمل، يتبع تاريخ الأديان منهجًا تحليليًا يدرس الأديان ضمن سياقاتها التاريخية. السواح اختار مقاربة لدراسة الظاهرة الدينية تخلو من الإيديولوجيا، وتتميز بالتعاطف مع إيمان الأفراد، “بصرف النظر عن دينهم وعقيدتهم، ومن دون تفضيل أي معتقد على آخر أو باسم علمانية متعصبة”.

في ظاهرية الدين، جميع الأديان متساوية، ولا تُرتب على مقياس “الأرقى إلى الأدنى”، إذ لا توجد ديانة “راقية ونبيلة” وأخرى “بدائية وهمجية”. فكما تختلف الحضارات في لغاتها وفنونها وعمارتها، تختلف أيضًا في عقائدها وتجاربها الدينية. لكل دين طريقٌ خاص، وكل الطرق تؤدي إلى الله. فالفريق “الهالك” هو من يعتقد أنه يحتكر الطريق إلى الله، أما “الناجي” فهو من يؤمن أن طريقه مجرد واحد من طرق متعددة تصل إلى الإله.

بخلاف مؤرخ الأديان الذي يبحث عما جرى في الماضي، يحاول الظاهري، فهم مغزى ذلك الماضي، والخيط الرابط بين مختلف المعتقدات والمعاني الكامنة وراء الممارسات الدينية. أي أن الظاهري هو مؤرخ من نوع خاص، يدرس المادة نفسها ولكن بأهداف تتجاوز المؤرخ التقليدي.

(المصدر: “الله والكون والإنسان”)

2) الأسطورة (الميثولوجيا):

يشكل الميث (الأسطورة) ثاني مجال يشغل فكر فراس السواح، لأنه يقدم إجابات للأسئلة الوجودية التي لازمته منذ طفولته. فالأسطورة، برأيه، تتناول مواضيع عميقة وشاملة تتعلق بالخلق، وأصل الأشياء، والموت، والحياة بعد الموت، وأسئلة ساهمت في ظهور الفلسفة.

يقول:

“الميث هو منظومة فكرية متكاملة أخذت بعين الاعتبار قلق الإنسان الوجودي ورغبته الدائمة في فهم غوامض العالم الذي يعيش فيه. هو محاولة لإيجاد النظام حيث لا يوجد، وتقديم إجابة للأسئلة الملحة، وصياغة تصور متكامل للوجود كي نجد فيه موقعنا ودورنا في إيقاع الطبيعة. إنه دليل حياة ومعيار أخلاقي، ومركب الحياة الروحية والفكرية للإنسان القديم.”

الميث حكاية مقدسة، تدور أحداثها بين الآلهة وأنصاف الآلهة، وهي لا تُعد اختلاقًا، بل وقائع حدثت في “الأزمنة المقدسة الأولى”. هي رواية أفعال الآلهة الذين أخرجوا الكون من الظلام، وأرسوا نظام العالم، ووضعوا الأسس الأولى لكل شيء في عالم البشر. الإيمان بها ركيزة وجودية، وإنكارها يعني فقدان الروابط الثقافية والجماعية، بل فقدان معنى الحياة.

بحسب السواح، لا وجود لدين دون أسطورة، فهي جزء جوهري من المعتقد، تُفسره بلغة أدبية رمزية. الأسطورة تخاطب العاطفة، بينما الإيمان يخاطب العقل. الميث والمعتقد يمثلان الجانب النظري للدين، أما الطقوس والعبادات فتمثل الجانب العملي، الذي يُجسد الصلة بالآلهة كما تصفها المعتقدات والأساطير.

(المصدر: “المغامرة الأولى للعقل”)

3) التاريخ:

المجال الثالث من مجالات المعرفة الذي يثير اهتمامه هو التاريخ، باعتباره الفضاء الذي تتشكل فيه المعتقدات والأساطير:

“لا يمكن فهم ديانة ما إلا ضمن سياقها التاريخي، إذ يضيء لنا هذا السياق على البيئة الثقافية التي أحاطت بنشوء تلك الديانة، وعلى التأثيرات الثقافية الخارجية التي ساهمت في تشكيلها. فالدين لا يولد في فراغ؛ ولكي نفهم مكوناته، ومصادره، وأصوله، وإبداعاته الخاصة، يجب أن نفهمه من منظور تاريخي. على سبيل المثال، لفهم البوذية، يجب دراسة البيئة الثقافية الهندية التي أنتجت البوذية الأصلية. ولفهم الهندوسية، علينا دراسة المعتقدات الفيدية التي سبقتها. ولفهم المسيحية، علينا دراسة التأثيرات الكتابية والزرادشتية والنيوبلاتونية والهلنستية. ولفهم الإسلام، يجب أن ندرس التأثيرات المسيحية والكتابية والزرادشتية والمانوية والوثنية العربية.”

(المصدر: “الله، الكون والإنسان”)

بهذا الشكل، يبرز هذا الملخص الطريقة التي تتداخل بها المجالات الثلاثة للمعرفة (وهي الظاهرة الدينية، والأسطورة، والتاريخ) والتي تشكل محور اهتمام فراس السواح.

حول أعماله في التاريخ

أما كتاباته التاريخية، فتتناول تاريخ فلسطين القديم وتاريخ شعب إسرائيل، إذ يقول:

“لقد نشأ هذا الاهتمام، من دراستي للتوراة العبرية ضمن أبحاثي العامة حول تاريخ الأديان، ومن مشاركتي في حربين مع إسرائيل، الأولى سنة 1967 والثانية سنة 1973، وأنا لا أزال أخوض حربًا صغيرة خاصة بي ضد إسرائيل على المستوى الفكري، ولن أصنع معها سلامًا. فبدلًا من المدفع المضاد للدبابات الذي كنت أقصف به دباباتهم، أستخدم الآن القلم لقصف مواقعهم الفكرية. للأسف، أنا وحدي في هذه الخندق، والصراع العربي مع إسرائيل يُدار على الصعيدين السياسي والعسكري من دون إيلاء الأهمية الكافية للمسألة التاريخية.”

(المصدر: maaber.org)

خاتمة

لإنهاء هذا المقال، من المهم التأكيد على أن قراءة مؤلفات فراس السواح غالبًا ما يُنظر إليها على أنها مجال دراسي مخصص للنخبة، مقتصر على أولئك الشغوفين بتاريخ الأديان والأساطير. ومع ذلك، نعتقد جازمين أن الواقع مختلف تمامًا: فالعقل العربي، بما يحمله من معتقدات مترسخة وثوابت ترفض التطور والتأويل والتصحيح، هو في أمسّ الحاجة إلى هذا النوع من البحث إذا كان يريد أن يأمل في زحزحة هذه الإيديولوجيات. وتزداد أهمية هذه المقاربة حين نعلم أن أعمال فراس السواح معروفة بدقتها المنهجية، وقوة حججها، ووضوح براهينها.

*أستاذ باحث حاصل على دكتوراه في الأدب الألماني له ثلاث مؤلفات باللغة الفرنسية:

     -الواقعية السحرية عند فانز كافكا

    -مدخل إلى فكر محمد شحرور: مارتن لوثر الإسلام

-محمد شحرور المفكر المتنور

 -ليبوفيتش وشحرور: صوتان مدويان

    

 

*تم إعداد هذا المقال باللغة الفرنسية، وقد تمت ترجمته إلى العربية مع الحفاظ على روح النص ودقته الفكرية.

Exit mobile version