رضوى عاشور:الكاتبة التي كتبت حياتها كما كتبت رواياتها

رضوى عاشور… حين تتجسد الكتابة في امرأة تحمل الوطن في قلبها

لم يكن اختيار رضوى عاشور ضمن ركن “نساء خالدات” مجرد احتفاء باسم أدبي بارز، بل اعترافًا بمسار استثنائي لامرأة جمعت بين الرواية والموقف، بين الإبداع الحر والالتزام الأخلاقي والوطني.

تستحق رضوى عاشور أن تُخلَّد، لأنها لم تكتب فقط من أجل المتعة أو المجد الشخصي، بل كتبت لتقاوم، لتشهد، ولتحلم بعدالة أكبر في عالم مضطرب. مزجت في أعمالها بين السرد العميق والوعي السياسي، بين الأنوثة الكاتبة والإنسانة التي لم تنفصل يومًا عن نبض الناس وقضاياهم. لقد جعلت من الرواية أداة للمعرفة والتحرير، ومن الحياة فعلًا ثقافيًا وموقفًا شجاعًا.

وُلدت رضوى عاشور، في القاهرة سنة 1946 داخل بيت مثقف؛ والدتها فنانة تشكيلية، وارتبط مسارها الإنساني بالشاعر والمناضل الفلسطيني مريد البرغوثي، وأنجبت الشاعر تميم البرغوثي، فكان بيتها امتدادًا حيًا للتفاعل بين المصري والفلسطيني، بين الهوية والقضية.

هذا المزج بين المصري والفلسطيني، بين الأدب والنضال، بين الأنوثة والقضية، شكّل جوهر مشروعها الإبداعي.

امتدت تجربتها لعقود من الزمن، وشهدت تطوراً لافتاً من حيث الشكل والمضمون، مما جعل منها صوتاً نسوياً عربيا فريداً، وواحدة من الأسماء المؤسسة في الأدب المقاوم والملتزم بقضايا الشعوب.

درست رضوى عاشور اللغة الإنجليزية في جامعة القاهرة، ثم حصلت على الماجستير من نفس الجامعة، وتابعت دراستها في الولايات المتحدة حيث نالت درجة الدكتوراه في الأدب المقارن من جامعة ماساتشوستس بأطروحة عن “الواقعية في الأدب الأمريكي الأفريقي”. عُرفت كباحثة دقيقة ومثقفة موسوعية، وكانت أستاذة جامعية بجامعة عين شمس بالقاهرة.

بين الفكر والإبداع

بدأت رضوى عاشور مسيرتها الأدبية بالنقد قبل أن تنتقل إلى الرواية، وظل كتابها النقدي الأول الواقع والرواية في روايات غارسيا ماركيز مرجعًا مهمًا في النقد العربي. غير أن شهرتها الأدبية رسخت بشكل أساسي من خلال أعمالها السردية، خاصة ثلاثيتها التاريخية “ثلاثية غرناطة” (1994–1995)، التي اعتبرت من أهم ما كُتب في الأدب العربي الحديث، لطرحها العميق لقضية الهوية والشتات من خلال قصة سقوط الأندلس.

ثلاثية غرناطة: ذاكرة الأمة في رواية

في “غرناطة”، رسمت رضوى عاشور لوحة مأساوية لسقوط الحضارة الأندلسية، ولكنها لم تكتب التاريخ كوقائع جافة، بل عالجته عبر شخوص من لحم ودم، يحملون الحزن والتمرد، ويجسدون معاناة الإنسان في مواجهة الاضطهاد والقمع والاندثار. الرواية كانت صرخة ضد محو الهوية، وضد الصمت. ولذلك، فإن “غرناطة” لم تكن فقط عن الماضي، بل عن حاضر عربي دائم السقوط.

الذاتي والسياسي

أبدعت رضوى عاشور في المزج بين الذاتي والسياسي، وبين التجربة الشخصية والهمّ الجماعي. في روايتها “الطريق إلى الخيمة الأخرى”، وثّقت تجربة زوجها في الأسر والنفي، وفي “أطياف وفرج وقطعة من أوروبا”، تناولت الواقع المصري الحديث بعيون مثقفة ناقدة. أما في “أثقل من رضوى”، فقد كتبت سيرتها الذاتية بأسلوبٍ صادقٍ وعميق، جسّدت فيه كفاحها مع المرض والمقاومة الثقافية والسياسية.

فيما تناولت في رواية ” “الطنطورية”، القضية الفلسطينية بمزيج من التوثيق والتخييل، وأظهرت تعاطفاً عميقاً مع الشعب الفلسطيني..

الالتزام والمقاومة

لم تكن رضوى عاشور مجرد كاتبة، بل كانت مثقفة ملتزمة. شاركت في الحركة الطلابية في السبعينات، وانخرطت في معارك ضد القمع والتهميش، ودافعت عن فلسطين بقوة، كما رفضت التطبيع مع إسرائيل. بقيت حتى آخر أيامها صوتًا حرًا ومثالاً للمثقف الحقيقي، الذي يرى في الكلمة أداة مقاومة وتحرر.

المنهج النقدي والموقف الفكري

عُرفت رضوى عاشور بمواقفها الجذرية من الأنظمة السلطوية، والتطبيع مع إسرائيل، وتهميش المرأة في المجتمع العربي. وكان لها حضورا بارز في الساحة الثقافية والسياسية المصرية، كما شاركت في تأسيس حركة “9 مارس للدفاع عن استقلال الجامعات المصرية”.

كانت تكتب بعين الناقدة وضمير المثقفة الملتزمة، ولم تفصل بين الأدب والسياسة. كما كانت صوتاً صادقاً في الدفاع عن قضايا الحرية والعدالة والكرامة.

الخصوصية الأسلوبية

تميّز أسلوبها بالسرد المتعدد الأصوات، والتناص التاريخي، واللغة الشعرية الرصينة، إلى جانب قدرتها على التوازن بين العاطفة والتفكير العقلاني، والتوثيق والتخييل. ولم يكن السرد عند رضوى مجرد حكي، بل أداة مقاومة ووسيلة للنجاة وإثبات الوجود.

الجانب الإنساني والعائلي

تزوجت رضوى عاشور من الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي، وأنجبت الشاعر تميم البرغوثي. وكانت حياتها العائلية تمثل امتداداً لرؤيتها الثقافية والوجدانية، حيث شكلت العائلة فضاءً حاضناً للتجربة النضالية والثقافية.

الرحيل والإرث

رحلت رضوى عاشور في نوفمبر 2014 بعد صراع مع المرض، لكنها تركت إرثًا أدبيًا وفكريًا كبيرًا، يشمل روايات وقصصًا ودراسات نقدية تُدرّس في الجامعات العربية والعالمية. لم تكتب من أجل الجوائز أو النجومية، بل كتبت لتقول الحقيقة وتترك أثرًا في الضمير الجمعي العربي..

من أقوالها الخالدة:

“أنا أنتمي إلى جيلٍ لا يزال يؤمن بأن الكلمة قادرة على تغيير العالم.”

“الكتابة بالنسبة لي مقاومة، مقاومة لفكرة الموت، للصمت، للنسيان.”

Exit mobile version