قراءة في رواية “حريق الدم” للكاتب عبد العزيز العبدي

بقلم: ليلى بوزير

 

 

… بعض عناصر هذه المجموعة تورطوا في جرائم اغتصاب وقتل، وهو ما خلّف إرثا مأساويا امتد لعقود. في إيطاليا، اختُزلت هذه الأحداث في مصطلح “marocchinate”، الذي يشير إلى المآسي التي عانت منها النساء الإيطاليات اللاتي وقعن ضحايا لهذه الفظائع، تاركة وراءها أطفالا بلا هوية…

صدر حديثا للكاتب والروائي المغربي عبد العزيز العبدي عمل أدبي جديد يحمل عنوان “حريق الدم”، وهو رواية تغوص في أعماق التاريخ لاستكشاف جراح إنسانية ربما لم تندمل بعد. تسلط الرواية الضوء على مواضيع حساسة مثل الخيانة، الزواج المختلط، والفظائع التي ارتكبتها بعض عناصر قوات الـ”كوم” (Goum) المغربية خلال الحرب العالمية الثانية، وما خلفته من ندوب عميقة في الذاكرة الجماعية، لا سيما في إيطاليا.

الرواية نقلة نوعية في أسلوب الكاتب والروائي عبد العزيز العبدي، حيث استطاع أن يمنح بعدا عالميا لقضية انسانية، مقدما سردا يجمع بين التأريخ والتخييل الأدبي. يستعين بتحقيب زمني دقيق للأحداث التي شهدتها بلدة “كاسينو” الإيطالية، المشهورة بدير Montecassino، والتي كانت مسرحا لمعارك طاحنة خلال الحرب.

وبعيدا عن السرد التقليدي، يحافظ النص على ترابط محكم بين الشخصيات، المكان، والذاكرة، مما يعزز إيقاع الرواية ويجنبها السقوط في الرتابة أو الخط السردي الأحادي.

تنفتح الرواية على مستويات متعددة من السرد، حيث تتداخل الحقيقة مع الخيال، والوثيقة التاريخية مع التخييل الأدبي.

يبدأ القارئ رحلته أولا حين يقع تحت تأثير غواية العنوان “حريق الدم”، الذي يحمل دلالات متشعبة: الألم، التجدد، التطهير، والحياة التي تولد من تحت الرماد. من خلال هذه الصورة الرمزية، يعيد الكاتب تأويل أحداث الماضي، كاشفا عن التعقيدات الأخلاقية المرتبطة بالجرح التاريخي.

بطل الرواية، طبيب إيطالي، يعثر بمحض الصدفة – وعبر أدوات العلم والطب- على أدلة تربطه بتلك الحقبة الدامية، حيث كان المغاربة الذين جندهم الجيش الفرنسي ضمن قوات الـ”كوم” مشاركين في عمليات قتالية ضد الجيش الإيطالي. غير أن بعض عناصر هذه المجموعة تورطوا في جرائم اغتصاب وقتل، وهو ما خلّف إرثا مأساويا امتد لعقود. في إيطاليا، اختُزلت هذه الأحداث في مصطلح “marocchinate”، الذي يشير إلى المآسي التي عانت منها النساء الإيطاليات اللاتي وقعن ضحايا لهذه الفظائع، تاركة وراءها أطفالا بلا هوية.

ما يميز “حريق الدم” ليس فقط جرأة الطرح، بل أيضا الاشتغال السردي الذي يبتعد عن المباشرة ويعتمد على بناء درامي محكم. تتجلى في الرواية مهارة الكاتب في جعل الشخصيات تتحدث عن نفسها، دون أن يفرض عليها وجهة نظر أحادية. كما تعزز الإشارات التاريخية والطبية من مصداقية السرد، مما يمنح العمل طابعًا وثائقيًا دون أن يفقد بعده الإبداعي المشوق.

في المجمل، لا تقتصر الرواية على مجرد استعادة تاريخ منسي، بل تسعى إلى مساءلته وإعادة تأويله من خلال عدسة الحاضر. إنها ليست فقط شهادة أدبية على مأساة إنسانية، بل أيضًا محاولة لفهم كيف تشكل الذاكرة هويات الأفراد والجماعات. بأسلوب يجمع بين الرؤية النقدية، السرد المتماسك، والتوثيق التاريخي، يقدم عبد العزيز العبدي عملًا يستحق التوقف عنده، سواء من زاوية أدبية أو بحثية تاريخية.

 

Exit mobile version