بسمة نسائية/ عزيزة حلاق
تقديم:
عبد العزيز كوكاس، اسم بارز في المشهد الثقافي والإعلامي الوطني، وصوت مؤثر، وقلم مبدع جعله من الأسماء اللامعة والمرجعية في الصحافة والأدب.
بأسلوبه النقدي والجريء، لا يكتفي كوكاس بنقل الأحداث ورصدها، بل يطرحها برؤيته وبتحليل معمّق، داعيًا إلى الشفافية والمساءلة في مختلف القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية.
تميز في معالجة الموضوعات المثيرة للجدل بأسلوب متجدد وغير تقليدي أكسبه جمهورا واسعا، ورسّخ مكانته كمرجع فكري وإعلامي يُعتدّ به.. لكوكاس إسهامات متعددة في المجالين الإعلامي والأدبي، وحضوره الفاعل في الملتقيات والندوات يعكس تأثيره المستمر وقيمته في الساحة الثقافية.
في هذا الحوار، نناقش مع الإعلامي كوكاس، واقع الصحافة والإعلام في بلدنا اليوم، في ظل التحولات الرقمية وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي. كما سنتطرق إلى قضية وأزمة استقلالية الصحافة، وتعريف الصحفي… وقضايا حارقة أخرى..
قد يكون الحوار طويلًا، لكنه غني بالتحليل العميق لواقع الإعلام، ويحمل بين سطوره رؤى وأفكارًا لم تُقَل من قبل، ما يجعله جديرًا بالقراءة والتأمل، فالأستاذ الإعلامي كوكاس سيقول كل شيء في هذا الحوار….أشياء لم يقلها من قبل.
سحر الصحافة
سؤال: المعروف عنك، أستاذ كوكاس، أنك بدأت مشوارك المهني في مجال التعليم، حيث درّست اللغة العربية في السلك الثانوي، قبل أن تنتقل إلى عالم الصحافة بما يحمله من تحديات ومنعرجات، ما الذي جذبك إلى مهنة المتاعب وجعلك تختار خوض هذا المسار؟ وكيف جئت إليه؟
* (يبتسم) جئت إلى الصحافة فيما يشبه عنادا مزدوجا من طرفي ومن طرف صاحبة الجلالة، عشقت المهنة في سن مبكرة، منذ كنت طفلا أقرأ الجرائد للكبار في حينا كل مساء عدت فيه من المدرسة، جريدتي المحرر والعلم، الأولى كان يتأبطها سرا بّا إبراهيم الكواي الاتحادي والثانية بّا ليبزار الاستقلالي، وأنا لا أفقه سطرا مما أقرأ، كنت يومها فقط أجتهد في تقويم صوتي وتنغيم شكل قراءتي، كأني أحاول أن أشخص دورا في نص مسرحي أو أتكئ على نبرات صوتي في كلمة تبدو لي ذات إيقاع سحري مفترض على المستمعين الذي يتحلقون حولي من شيوخ الدرب بحي الخير بالرباط، بعد أن يلعبوا الضامة والورق، كانوا يستريحون بقراءة الصحف، وكنت أحضر أول تفاعل في حياتي مع الصحافة الورقية يومها، حين تبدأ المناقشات وتحتد بين مختلف الرجال الكبار من حينا، كنت أرى ذلك الانتباه الشديد والأثر السحري لما أقرأ من مقالات ملغزة كبيرة على فهمي وأنا في الأقسام الابتدائية الأولى، كنت لسان هؤلاء الشيوخ الذين لم يلجوا لا كتاتيب قرآنية ولا مدارس عمومية، وأتساءل: كيف لهذا المداد الأسود الذي أترجمه لهم بصوتي كل هذا السحر؟
سؤال: تلك كانت شرارة الغرام إذن؟
(يبتسم) بالفعل، من يومها أُغرمْت بالصحافة وأحسست أن لدي شيئا مميزا يجعل هؤلاء الشيوخ ينتظرون قدومي من المدرسة في طريق عودتي إلى المنزل، ليتحلقوا حولي وأُصبح الحكواتي الذي يقرأ لهم من الجريدة ما يأسر لبّهم ويجعلهم يطرقون صامتين.. إنه سحر الصحافة.
سؤال: هل لهذا السبب ولجت معهد الصحافة، بنوع من العناد؟
لا أبدا، حدث أني تقدمت بعد حصولي على البكالوريا إلى المعهد العالي للصحافة يومها، تلقيت مراسلة بقبول ترشيحي، لكن لأمر لم أفهمه أبدا حتى اليوم أني لم أتوصل بالدعوة لاجتياز الامتحان.. فولّيْتُ الصحافة، هذه المعشوقة الفاتنة، الأدبار والصدود وقصدت كلية الآداب وجذبني الشعر، ولم تشغلني الصحافة إلا فيما يدخل في باب فهم ماجريات ما يحدث في مجالي العام كباقي أبناء جيلي، حتى التقيت الراحل عبد الجبار السحيمي ذات صدفة، وبعد أن كتبت مقالا في بداية التسعينيات في جريدة “الزمن” باسم مستعار نكاية في هذه المعشوقة التي قابلتني بالصدود فبادلتها بالجحود.. حيث نُشر المقال ومعه، أتذكر في الصفحة الأولى وببنط غليظ، دعوة باسم الشخصي للاتصال بالجريدة، التي كان يرأس تحريرها المفكر الراحل محمد سبيلا ويكتب فيها السحيمي والعربي المساري ومحمد ضريف وأقلام كبيرة يومها.. ويديرها الراحل عبد الكبير العلوي رحمة الله على الأموات منهم. من يومها انخرطت في حقل الصحافة وأنا مدرس في التعليم الثانوي.
سؤال: من هم الكتاب الذين كانت كتاباتهم الصحفية مرشدا ودليلا لك علی درب الصحافة؟
كنت أردد دوما أننا كجيل لسنا لقطاء، وأننا لم ننبت مثل الفطر أو قطرنا من سقف السماء، نحن ورثة مشعل من أقلام فذة وشمت اسمها بفخر في الصحافة الوطنية ومهدت لنا الطريق، كان التأثير الأكبر بالنسبة لي من أسماء لها وهجها الإعلامي، بعضها لم يقدر لي أبدا أن ألتقيه يوما مثل المرحوم محمد باهي، وبعضها مثل عبد الجبار السحيمي والعربي المساري وغيرهما قدر لي أن أكون قريبا منهما دفئا ومعاشرة إنسانية وصداقة بنبل بلا حدود، زد على ذلك مفكرين وأعلام بارزين اشتغلوا في مرحلة من حياتهم بالصحافة
أمثال الراحلين محمد عابد الجابري ومحمد سبيلا وعبد الرفيع الجواهري… إن الأمر يتعلق بأعمدة استفادت منهم الصحافة المغربية بوجه من الوجوه.. وأنا ممتن لهم كثيرا.
سؤال: نعيش في قلب انقلاب حقيقي في قلب الصحافة، ماذا يحدث بالضبط اليوم بصفتك أستاذا في المعهد العالي للإعلام والاتصال وممارسا في قلب الميدان لمدة تزيد عن ثلاثين سنة؟
نعيش خريف مرحلة ربيعية من الإعلام التقليدي خاصة في مجال الصحافة المكتوبة الورقية أساسا، بحكم الفورة الرقمية ونهاية العصر الطباعي الذي كان قد شكل منذ القرن الخامس عشر ثورة كوبرنيكية قلبت وجه العصر الحديث، إننا في بداية تحول كوبيرنيكي أخطر وأعظم، مع ميلاد الإنسان الرقمي والعولمة التكنولوجية، بحيث أصبح الإعلام مجال رهانات فاعلين جدد من عالم السياسة والمال والتكنولوجيا، ومع تغيرات موازية في مفهوم الفضاء العام الذي كان مقتصرا على النخبة والفاعلين السياسيين، لقد دخل الجمهور حيز هذا الفضاء وأصبح بدوره صانعا للمحتوى الإعلامي، لذلك نحس أن اللغة التي اعتدنا بها توصيف ما كان يحدث حولنا، لم تعد قادرة على استيعاب ما يحصل من تغيرات بينها بالطبع الإيجابي والسلبي..
سؤال: هل تحس أن لغتنا لم تعد قادرة على تشخيص ما نراه من حولنا من انهيارات كبرى؟
بالطبع، يحضرني هنا ما أثاره الروائي الأمريكي بول أوستر في “ثلاثية نيويورك” وهو يتساءل بحرقة كيف تشظَّى العالم من حولنا، حيث لم نفقد شعورنا بالهدف فحسب، وإنَّما فقدنا اللّغة التي يمكننا بها الحديث عنه، ذلك أنّ كلماتنا لم تعد تطابق العالم، فعندما كانت الأشياء كلاًّ واحداً، كنّا نشعر بالثّقة في أنَّ كلماتنا ستعبّر عنها، ولكنْ شيئاً فشيئاً تحطّمت هذه الأشياء، تمزَّقت، انهارت، تحوَّلت إلى فوضى، ومع ذلك ظلَّت كلماتنا على حالها، ولم تؤقلم ذاتها في الواقع الجديد، ومن هنا فإنّنا في كلّ مرّة نحاول الحديث فيها عمّا نراه نتحدّث بشكل زائف، ونشوِّه الشيء الذي نحاول أن نطرحه، وقد حوّل ذلك كلّ شيء إلى ركام مضطرب من التوصيفات والتعبيرات التي لم تعد تمتلك كفاية منهجية ولا الدقة العلمية للتعبير بدقة عما يحدث مما أسميتينه ب”الانهيارات”.
وأفكر في تفسير جون ميلتون للسقوط، حين رأى أنه إذا كان سقوط الإنسان يقتضي بالتبعيَّة سقوط اللّغة، فمن المنطقي الافتراض بأنه سيكون من الممكن قهر السقوط وقلب آثاره من خلال قهر سقوط اللّغة، وبذل قصارى الجهد لإعادة خلق اللّغة.. زد على ذلك أن الأزمات الكبرى التي كان لها تأثير كبير على الوعي الإنساني أدخلتنا زمن اللايقين بقوة. فالحقائق اليوم لا تصمد، والمعلومات تتحول بسرعة الضوء. ما نحسه هو أننا نعيش حالة فوضى في مجال الإعلام رجّ بنيات كثيرة، وزلزلت القناعات التي استكنا إليها بطمأنينة خادعة لتفسير وتأويل كل شيء…
سؤال: أمام هذا الواقع المأزوم، كيف يمكن تشخيص هذه الفوضى الخطيرة في مجال إعلامنا الوطني؟
تعاني معظم وسائل الإعلام المغربية، خاصة المستقلة منها، من أزمات مالية تجعلها عرضة لضغوط الإعلانات والتمويلات المشروطة. الصحافة الورقية في تراجع حاد، والإعلام الرقمي يعاني من ضعف العائدات الإعلانية، هناك هيمنة لجهات معينة على سوق الإعلانات التي هي جد ضيقة أصلا بالمغرب وأصبحت تزاحمها وسائط التواصل الاجتماعي، فالدعم الإعلاني يُوزَّع بطريقة غير شفافة، مما يؤدي إلى تفضيل منابر معينة على حساب أخرى، وهو ما يقوّض تكافؤ الفرص بين المؤسسات الإعلامية.. فيما لا يزال الإعلام العمومي يعاني من تأثيرات مباشرة وغير مباشرة من الدولة، ولا وجود لدينا لمفهوم الخدمة العمومية. رغم وجود قوانين تضمن حرية التعبير، إلا أن الرقابة الذاتية والخوف من المتابعات القانونية تجعلان الصحافة أقل جرأة في تناول بعض القضايا.. هناك قضية الحق في الوصول إلى المعلومات، فعلى الرغم من المصادقة …
على قانون الحق في الحصول على المعلومات، إلا أن تطبيقه يواجه عراقيل، حيث تظل مؤسسات عديدة متحفظة في تقديم معطيات حيوية للصحفيين فبالأحرى عموم المواطنين.
هناك ضعف أجور الصحفيين وعدم استقرار الوضع الاجتماعي والاقتصادي للمقاولات الإعلامية الصغرى والمتوسطة، أضف إلى ذلك الوضع الهش لمهنة الصحافة، فالرواتب الهزيلة تؤدي إلى فقدان الكفاءات وهجرة بعض الصحافيين إلى مجالات أخرى أو إلى الإعلام الخارجي.
وهناك أم المهازل وهو تفشي الإثارة والمحتوى السطحي، فالكثير من المنابر تعتمد على العناوين الخادعة والمحتويات الترفيهية أو الفضائحية لتحقيق نسب مشاهدة عالية على حساب المضامين العميقة والتحليلية. وأصبحت شبكات التواصل فيسبوك ويوتيوب وتيك توك مصدرا أساسيا للأخبار بالنسبة للجمهور، مما يجعل الصحافة التقليدية تواجه منافسة شرسة. زد على ذلك انتشار الأخبار غير الموثوقة عبر المنصات الرقمية الذي يزيد من صعوبة التأكد من الحقائق، مما يضع تحديات إضافية أمام الصحافة المهنية.
وهناك بعد آخر لأزمة الصحافة بالمغرب يتمثل في ضعف ثقافة الاستهلاك الإعلامي الواعي، هناك نقص مهول في الوعي الإعلامي لدى الجمهور، حيث يعتمد كثيرون على مصادر غير موثوقة أو ينخرطون في استهلاك المحتوى التافه ويفتقدون لوعي نقدي بحكم ضعف التنشئة الإعلامية.
سؤال: طيب، لا تتحملون بعض المسؤولية فيما يحدث اليوم؟ أين الخلف الذي أعددتموه لحمل مشعل ما كنتم تمارسونه وتطالبون به وأنتم رواد في الصحافة المستقلة؟
لا يمكن أن نتنصّل كجيل من بعض مسؤولياتنا، خاصة في مجال تأصيل حرية التعبير والحفاظ عليها، “وما أبرئ نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي”، ولو أن الوضع جد معقد ويحتاج إلى تأمل وتدبر عميق، بحكم تداخل عناصر كثيرة فيما آل إليه وضعنا الإعلامي الذي تكاد وسائط التواصل الاجتماعي تقضي فيه على جذوة ضوئه، ويجب أن نطرح العديد من الأسئلة على أنفسنا خاصة باعتبارنا روادا لما يسمى بالصحافة المستقلة:
كيف لم نفلح في خلق نموذج اقتصادي ناجح لمقاولة إعلامية تستطيع أن تواجه تعقيدات الوضع السياسي والاقتصادي الذي كنا نعيش في معمعانه؟ ماذا قدمنا لحماية حرية التعبير ومأسستها؟ ألم نمنح الأطراف الراديكالية في الدولة الفرصة للعصف بما أثمره عهد الانفتاح في نهاية حكم الملك الراحل الحسن الثاني وبداية ما سمي يومها بالعهد الجديد؟ ألم تساهم أنانياتنا أو طموحاتنا حتى المشروعة والنبيلة منها في تفتت المقاولات الإعلامية الكبرى التي انتسبنا إليها وصنعنا مجدها ومنحتنا فرصة بروز أسمائنا؟ هذا لا يبرئ أبدا ما تعرضنا له حقا في هذه التجارب الصحفية المشعة.
سؤال: ألا ترى أن هذه الفوضى وهذا الانحطاط كما وصفته، هو جزء من الانحطاط العالمي؟
أكيد، الفوضى أو الانحطاط الذي وصله الإعلام المغربي هو جزء من الانحطاط العالمي الذي أصاب الإعلام مع امتداد العصر الرقمي. أما عن الخلف فأعتقد أن الصحافيين الذين يديرون أو يرأسون تحرير العديد من الصحف الرزينة اليوم والمواقع الإلكترونية هم خريجو مدرستنا وأسلوبنا الإعلامي، وبعضهم كانوا طلبتي أو عملوا في منابر كنت أديرها.
سؤال: يحمل الكل المسؤولية لاندحار الإعلام، الذي هو وسيلة تواصل، وسيط، بين صناع القرار ومنتجي المعلومات والقراء أو الجمهور الواسع من الزوار والمستمعين والمشاهدين، أليس الخلل في الواقع ذاته؟
معك حق، فالصحافة كما كان يقول هيغل هي مرآة للمجتمع الرأسمالي، وبالتالي فمسؤولية ما يقع من انفلات وانهيار في الصحافة الوطنية هو انعكاس لتحولات المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، بالأمس كان هناك فاعلون سياسيون يحملون أمجاد التحرير والدفاع عن الحرية والديمقراطية، إضافة إلى كونهم أيضا متورطون في السؤال الثقافي والتفكير النظري العميق، أمثال علال الفاسي وعبد الرحيم بوعبيد وعمر بن جلون، أحمد لحليمي والعربي المساري ومحمد عابد الجابري…
وحتى النخب الوسيطة في الأحزاب السياسية أو في باقي مجالات العمل الاجتماعي أو المؤسسات الثقافية والفنية والتي كانت في معظمها مصدر أخبارنا، كانت خريجة مدرسة حزبية اهتمت بالتكوين والتأطير، مثل الشبيبات الحزبية والاتحاد الوطني لطلبة المغرب والمنظمات النقابية والحقوقية.. ليس مثل اليوم فالفاعل السياسي هجين ويفتقد لبعد الرؤية في معظمه إلا من رحم ربك، وبينهم ممثلون وحلايقية ومروضو قردة وأفاعي، ومهرجون يبحثون عن البوز، وباحثون عن المال والمجد الشخصي على حساب الأمة..
سؤال: عفوا، أين هم المثقفون اليوم؟
المثقفون؟ المثقفون غادروا حلبة الصراع وانزووا في أبراجهم العاجية أو انخرطوا في ما أسميه ثقافة الهميزات ودعم المؤسسات وإعادة تشكيل تجمعات قَبَلية تقطع الطريق على غيرهم ممن ينافسوهم، خوفا من ضياع دعم عمومي أو حرمان من سفريات ودعوات مؤسسات عمومية.. هذا الوضع كان طبيعيا أن ينعكس على الإعلام، “فما إنا إلا من غُزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد”، كما قال الشاعر الجاهلي وهو يعلن ولاءه لقبيلته (غزية اسم القبيلة) يعادي من عادوا ويسالم من سالموا.
سؤال: يتغنى الكثير من زمن جيلنا، بالعصر الذهبي للإعلام وخاصة الصحافة المكتوبة، بيني وبينك أستاذ كوكاس، هل عشنا بالمغرب فعلا عصرا ذهبيا للإعلام؟
بمقياس المقروئية والمهنية، نحن نقارن ما كنا عليه بما نعيشه، وهنا يظهر الفرق صارخا حد الفجيعة، لكن في حقيقة الواقع يكاد الأمر يشبه أكذوبة في مجال الصحافة، فأكبر نسبة لبيع جريدة أسبوعية على سبيل المثال كان هو خمسون ألف نسخة، على مستوى البيع وعلى مستوى القراءة يمكن أن يتضاعف العدد إلى خمس مرات في أبعد تقدير، أي 250 ألف قارئ لشعب يتجاوز ثلاثين مليون نسمة، لم تكن لدينا عادة القراءة، والجريدة لم تكن تدخل المنزل لتقرأها الأسرة كاملة بقدر ما انحسرت في المقاهي، أي أن المجتمع المغربي انتقل من الشفوي إلى التقني أو الرقمي دون المرور من تأصيل الكتابي، في مجتمع تسود فيه الأمية ولا تقاليد لديه في قراءة الصحف إلا بين النخب المتوسطة غالبا.. فلا يوجد بهذا المعنى عصر ذهبي للإعلام خاصة المكتوب، في حالة السمعي البصري هذا نعم عرف زخما وانتشارا واسعا، ثم هناك بعد أساسي في كل صحافة مهنية وهو الاستقلالية، إعلامنا كان إما ناطقا باسم الأحزاب أو ناطقا باسم الدولة، أي أنه في معظم توجهاته لم يكن مستقلا، ولا يخدم الحقيقة وعموم الناس.
سؤال: كنتم في منبر واحد في الصحيفة، ورفعتم شعار “الصحيفة منبر من لا منبر له”، تم انقسمتم حتى أصبح لكل واحد منكم منبره، ألم تساهموا أنتم أيضا في ضعف مصداقية الصحافة، لماذا تتوجهون فقط للغير، أين مسؤوليتكم؟
سؤال وجيه، علينا أن نتعلم فضيلة الاعتراف ونمارس النقد الذاتي قبل أن نطالب به الآخرين، بالنسبة للتفتت الذي طاردنا في الصحافة المستقلة، لا يمكن أن ننظر إليه معزولا عن انشطار باقي البنيات المجتمعية، ثمة جينات التفتت التي توجد في قلب الواقع الثقافي والاجتماعي بالإضافة إلى إكراهات موضوعية، دون إقصاء الطموحات الذاتية التي تحاول أن تبحث عن مبررات موضوعية، والواقع يمنحنا دوما ألف مبرر للانقسام، وقد قلت مرة إن خروجنا من الصحيفة قد يكون خطأ، وتساءلت هل بالفعل انعدمت يومها شروط التوافق داخل ذات البنية الإعلامية، ألم ننساق نحو طموحاتنا أيضا؟
سؤال: وماذا كان الجواب؟
أعتبر أن التاريخ كفيل بتقييم ما حدث بدقة وحياد وموضوعية أكثر مما يمكن أن نقوم به الآن، لكني لا أبرئ نفسي كما قلت سابقا.. حتى وإن كانت نياتنا خالصة واندفاعنا مشروع وحتى طموحاتنا لم تكن تجري وراء المال أو المناصب، فحين تنتمي لصحف النقمة لن تطمع في أن تجني مكاسب صحف النعمة، إذ حتى بانشطارنا ما بدّلنا تبديلا.
سؤال: انتهت الصحافة الورقية وزحف الإعلام الإلكتروني ما هي أبرز الإشكالات الفلسفية والمهنية والقانونية المرتبطة بهذا التحول ببلادنا؟
هناك إشكالات كثيرة مرتبط بعضها بتحديد اليوم معنى الصحافة وما هي وظيفة الصحافي وما معنى الانتساب اليوم لمهنة الصحافة، وهل يشكل إصلاح الإعلام وتطويره أولوية لدى جل الفاعلين بمن فيهم الإعلاميين وأرباب المقاولات، وما دور القنوات المتعددة التي أصبح يأتي منها الصحافيون في ضعف التأطير المهني وإنتاج الإسفاف الإعلامي وانتقال قيم وسائط التواصل الاجتماعي إلى مجال الإعلام مع نماذج التيكتوكيين والتيكيتوكيات، والمؤثرين والمؤثرات، وصناع محتويات التفاهة وروتيني اليومي.. وهناك البعد القانوني الذي لم يوازي التحول الإعلامي الموجود في الواقع المغربي، أضف إلى ذلك أن الهاجس المتحكم في تجديد روح القوانين المهنية لا يكون الباعث عليه هو تنظيم الحقل الإعلامي ولكن المزيد من الضبط والترويض.
سؤال: هناك نوع من التعميم في توجيه أصابع الإدانة للإعلام الإلكتروني كما لو أنه كتلة متجانسة، ألا ترون أن هناك نوعا من الظلم لمنابر جادة رغم أنها فتية وتكافح بوسائل محدودة لكن بمهنية عالية؟
معك حق، إننا نكاد نرمي الرضيع مع ماء الاستحمام، وكنت دوما مدافعا عما أسميه باليراعات ومنارات الضوء في حقلنا الإعلامي، هناك منابر جادة ومنسوب المهنية فيها جد مرتفع، وتقاوم بوسائل متواضعة وتبذل مجهودا خرافيا في ظل كل هذه العتمة المنتشرة حولنا، وأرفع لها القبعة عاليا.
سؤال أخير خارج السياق
- -اسم لشخص أنت ممتن له في حياتك الشخصية و المهنية؟
*في حياتي الشخصية أنا مدين لأبي وفي حياتي المهنية أنا ممتن لعبد الجبار السحيمي.
– اسم تتجنب ذكره؟
*هو ما سأظل أفعل حتى اللحظة سأتجنب ذكره لعدم الإساءة لكم ولي.
– شخصية نسائية ألهمتك أو ما زالت تلهمك خاصة ونحن في شهر مارس شهر الاحتفال بالمرأة، وأنت من المناصرين لها..
*زوجتي، ليس ذلك مجاملة ولا رميا للورد للنساء في هذا الشهر الوردي، لا أبدا، فلولاها لما كنت على ما أنا عليه بكل تواضع وفخر، لذلك أقصد جيدا العبارة التي أهديت بها كتابي الأخير “لو يخجل الموت قليلا”: إلى زهرة العمر.. المرأة التي تجعلني لا أموت.
انتهى الحوار والبقية تأتي..
*تجدون في هذا الألبوم/ الشريط، تحفة من الصور خاصة ببسمة نسائية، بعضها من أرشيف العزيزة زليخة، وأخرى من أرشيف ضيفنا العزيز عزيز كوكاس.
– رفقة الراحل أحمد الزايدي
– رفقة الراحلين سبيلا وعبد الكبير العلوي
– رفقة محمد الحبابي
– مع الراحلين المهدي المنجرة ومليكة ملاك والروبيو بائع الجرائد
وأسماء أخرى..
الرابط على قناة: basmamgmaroc
توضيب الفيديو: مراقب الموقع جمال الحزازي
https://www.youtube.com/watch?v=X9qMxo7WcdM